يقظة الفكر يقظة الفكر
");

آخر الأخبار

");
random
جاري التحميل ...

إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .

رحلة تمرد العلوم على الفلسفة






يدور نوع من الجدل بين صدى مطرقة العلم الصاعد بعد كل اكتشاف علمي، وبين رجة الوعي المرافقة لكل قراءة فلسفية، ويقال الفلسفة أم العلوم كما يقال العلم قتل الفلسفة.
فقد ولدت مختلف العلوم من رحم الأم الفلسفة الطبيعية منها و الحقة و حتى الإنسانية ، وترعرعت في أحضانها و رضعت منها المعارف و التمهيدات لمدة لا تقدر بأشهر بل بقرون ، حتى شابت و اكتملت أطرافها فقررت الاستقلال . إنها قصة انسلاخ ، انسلاخ العلوم عن الفلسفة التي كانت لا تزال بمثابة معرفة كونية مثلما تنسلخ الأغصان عن جذعها المشترك .


✔الرياضيات و الفلسفة :

لا غرو أن العلاقة التي تجمع الرياضيات بالفلسفة وطيدة جدا ، و اعتبرها أفلاطون شرطا لممارسة التفكير الفلسفي فكتب على لافتة تعلو باب أكاديميته : لا يدخلها إلا من كان رياضيا . و نجد أن أغلب الفلاسفة هم بالضرورة رياضيين كديكارت و باسكال و طاليس و فيتاغورس ، الذي تبلورت معه الهندسة الرياضية بمبرهنته حول المثلث قائم الزاوية ، و عرف بازدواجية الفلسفة و الفكر الرياضي على أساس أن الجمع بينهما يفضي الى العلم التابث و الأزلي ، و ظلت هذه الازدواجية لمدة تزيد على مئات السنين ، و عززها أخميدس ، حتى جاء أبو الهندسة أقليدس ليثور على الفلسفة الرياضية و أبقى على الرياضيات كعلم خالص ، و أبدى ذلك في كتابه العناصر و هو كتاب أساسي لتدريس الرياضيات ، حيث صاغ فيه نظرياته و نظمها ، و ظلت الهندسة الأقليدية لأزيد من عشرين قرنا نموذج الدقة واليقين. لكونها تنبني على اتساق المقدمات مع النتائج وعلى معيار البداهة والوضوح(ديكارت) كأساس ثابت لا يمكن لأي عقل أن يرفضها … البداهة والصرامة المنهجية التي تمنعها من الوقوع في الخطأ. بمعنى أن الحقيقة في الرياضيات الأقليدية هي حقيقة مطلقة (أي ثابتة وصالحة لكل مكان وزمان) .و انطلاقا مما سبق نجد أن الفلسفة تمكن من تقديم خدمات كبيرة للعلوم وللرياضيات على الخصوص (طاليس، فيثاغورس، أفلاطون، أقليدس، ديكارت وكذلك في الفترة المعاصرة لا مناص من الحديث عن فلاسفة مثل أنشتاين وكودل ولابلاص وماكس بلانك وبوانكاري …
فالرياضيات وإن استقلت عن الفلسفة فإنها تستغيث بالفلسفة عند ما سماه برتراند راسل بمناطق الحدود .

✔علم الفلك و الفلسفة :

علم الفلك هو علم علم تأملي، يدفع إلى التدبر في جمال هذا الكون العظيم، وكبيره واتساعه، فيشعر المتأمل في نجومه وأجرامه بالراحة والاسترخاء، و التأمل هو أهم مبدأ لممارسة الفلسفة ، يقوم على استنباط الحقائق الخالصة ذات الطابع المنطقي ، و اشتغل به جل الفلاسفة الطبيعيين و خرجوا بنظريات منقطعة النظير كنظرية الذرة عند ديموقريطس ، و نظرية حركة الأرض عند الفيلسوف اليوناني فيلولاوس فهو الذي قال أنها تتبع مسارا دائريا كل يوم. وهي تبقي دوما الوجه نفسه متجها نحو المركز. فهو لم يضع الأرض في مركز الكون! ولا حتى الشمس كذلك! بل وضع نارا مركزية تدور حولها الأرض والشمس والقمر والكواكب الخمسة وقبة النجوم، وبما أن الفيثاغوريين كانوا يبجلون الرقم 10 فقد أضاف فيلولاوس جسما افتراضيا متحركا عاشرا حيث افترض كوكبا سماه الأرض المضادة والتي تتحرك دوما لتبقى بين النار المركزية وأرضنا الدوارة فتحميها من التعرض المباشر للنار. و بعد هذا الفيلسوف خرج من المدرسة الفيتاغورية فيلسوف تأملي آخر هو أرسطرخس الساموسي فأكد على أن الشمس تقع في مركز الكون والأرض تدور حولها سنويا، وفي ذات الوقت تدور حول محورها يوميا، وكل الكواكب السيارة الخمس (آنذاك) تدور حول الشمس، ماعدا القمر فهو يدور حول الأرض. أما النجوم فهي ثابتة وحركتها اليومية ماهي إلا خدعة سببها دوران الأرض حول محورها في الإتجاه المضاد. واستنتج ذلك بناء على تأكده من كون الشمس أكبر من القمر والأرض، فليس من المعقول أن تتحكم الأرض ذات الحجم الصغير بكوكب كبير كالشمس. فضرب الفيتاغوريون نظرية مركزية الأرض لبطليموس عرض الحائط ، لكن صيتهم لم يذع في تلك الفترة خصوصا مع دخول المسيحية الى ألاراضي اليونانية الرومانية ، حتى قدم عالم من قلب بولونيا يدعى نيكولاس كوبرنيكوس و تجرأ على الكنيسة بعد كمون و جمود و وضع أسس مركزية الشمس على الطاولة ليقلب الموازين و ليناقش عمله علماء بعده كبراهي و غاليلو ..
لقد كان كوبرينكوس عالما و ليس بفيلسوف ، لكن الظاهر أن الفيسلوف الحقيقي سبق العالم .

✔فيزياء الميكانيكا و الفلسفة :

تمثل الفيزياء - بسبب طبيعة مباحثها المعرفية - التوأم الطبيعي للفلسفة ، وقد تطورت هذه العلاقة التوأمية بين الفيزياء والفلسفة منذ بواكير الفلسفة الإغريقية التي يمكن عد أقطابها الأعلام أوائل فيزيائيي عالمنا . و قد ترسخ الإرتباط الوثيق بين الفيزياء والفلسفة في العصور اللاحقة للعصر الإغريقي حتى بزوغ عصر الميكانيك النيوتني الذي جاء بأدوات رياضياتية مستحدثة ( هي رياضيات التفاضل والتكامل ) في التعامل مع الظواهر الطبيعية ، و بالتالي كان نيوتن أول من فصل الفيزياء عن الفلسفة ، مع نظرييه المعروفة بالجاذبية و التي لازالت سارية المفعول الى عصرنا هذا مرتبطة بقصة يعلمها الصغير قبل الكبير هي قصة : لماذا سقطت التفاحة؟ إنه أحد الأسئلة الجوهرية العظيمة دعت إليه الدهشة ، و لكن في العصر الإغريقي كان هذا الإشكال يغزو عقول الناس و الفلاسفة بصيغة مغايرة هي : لماذا يسقط الحجر؟ أجابوا بأن الأرض تجذبه ، غريب أليس كذلك ؟ و أجاب أريسطو أن إن سبب سقوط الحجر نحو الأرض هو أن لكل جسم مكانا طبيعيا يطلبه بطبعه، فإذا تركه قسرا عاد إليه بطبعه بعد زوال القاسر. فسبب سقوط الحجر نحو الأسفل هو أن الأسفل هو مكانه الطبيعي، وسبب صعود الدخان أو البخار إلى أعلى هو أن الأعلى هو مكانهما الطبيعي . و هذا الإشكال وارد عند الفارابي و ابن سينا في كتابه الشفاء و بالتالي العالم نيوتن و مسألة البحث عن تفسير لسقوط الحجر (التفاحة) نحو الأرض كانت معروفة منذ قرون طويلة، وأن القول بأن سبب سقوطه هو جاذبية الأرض هو أيضا كان معروفا منذ قرون طويلة .و بالتالي فعبقرية نيوتن لا تكمن في صلب نظريته و إنما في دهشته و التي يمكن اعتبارها فلسفية ، و لأنه تفكر في سبب سقوط التفاحة، بينما لو كان هناك شخص غيره لتفكر كيف يأكلها. أما أريسطو و الفلاسفة الذين أشاروا الى الجاذبية من قريب أو بعيد فقد كانت فلسفتهم خام ، لا تشوبها شائبة السبق و النقل .

✔البيولوجيا و الفلسفة :

امتدت الفلسفة البيولوجية لتدعو إلى العودة إلى الطبيعة، فنحن جزء لا يتجزأ من الكون، وربما كانت معاناة الإنسان الحالية هي بسبب انفصاله عن الطبيعة، فالعودة إلى الطبيعة هي عودة الإنسان إلى نفسه، و قد أخد تشالز داروين هذه القاعدة و غير فيها القليل ، فالعودة الى الطبيعة عنده هي عودة إلى الأصل الحيواني للإنسان ، عبر نظرية التطور ، فبينما كانت الفلسفة البيولوجية تدافع عن إنسانية الإنسان و تنزهه عن باقي الكائنات بملكة العقل جاء العلم البيولوجي ضدا على ذلك ليبرهن بالأدلة التجريبية و التنقيبية على أن سيرورة التطور تضم العنصر البشري كذلك ، و الشيء المختلف والنقلة النوعية التي أحدثها داروين بالفعل هي صياغته للفكر التطوري في قالب نظرية علمية بدلا من الاقتراحات المبهمة الرائجة -حينئذ- بخصوص آليات التطور، ففي عام 1859م و بعد تردد كبير، نشر داروين كتابه (أصل الأنواع) الذي حاجج فيه على تطور جميع الكائنات الحية من خلية بسيطة ازدادت تعقيدا مع مرور الزمن، لكن داروين لم يكن جريئا في التصريح بتطور الإنسان، وظهر في الكتاب عدم يقينية داروين في مسألة تطور الإنسان خصوصا أنه لم يتحدث عنها طوال الكتاب، بل أنه حاول تطبيق آلية الانتخاب الطبيعي على الإنسان ولكنه لم يستطع، فدون في مذكراته: (ولكن الإنسان.. الإنسان الرائع. استثناء لذلك) ، هذه النظرية العلمية البحثة سبقتها نظرية فلسفية للتطور هي للفيلسوف الفرنسي جورج دي بوفون في كتابه التاريخ الطبيعي أيد فيه فكرة تطور الكائنات الحية من أنواع أسلاف مشتركة. و بالتالي فتشارلز داروين لم يكن عبقريا قدر ما كان مجتهدا، وعلى أية حال فإنه في الحقيقة لم يكن ثمة جديد فيما يتعلق بالفكر التطوري وقت ظهور داروين، بل يمكن اعتبار داروين و فكرة الانتخاب الطبيعي ببساطة نتاج عصرهما حتى أن فكرة الانتخاب الطبيعي نفسها كانت مطروحة قبل داروين بواسطة جده :إراسموس داروين.

✔علم النفس و الفلسفة :

يكاد يكون علم النفس هو العلم الوحيد الذي ما زال وفيا لأمه (الفلسفة)، وما زال يشتاق لحضنها، إلى درجة أنه كان آخر العلوم التي انفصلت عن الفلسفة واستقلت عنها بعد أن طور لنفسه أدوات ووسائل علمية كسائر العلوم بداية مع وليام فونت مرورا بالمدارس النفسية كالسلوكية و الجشطلتية و التحليلية بقيادة العظيم سيغموند فرويد ، و الذي تتمحور جل أعماله في فلك اللاشعور باعتباره الدالة و العلة المتحكمة في كل سلوكات الإنسان ، فاللاشعور هو الجزء الأعمق و الخفي في الإنسان يحتل مساحة شاسعة في أرضية شخصيته ، و طور منهجا متميزا للكشف عن تجلياته، وكذلك بعض التقنيات لعلاج الاضطرابات النفسية التي تسببها رواسب اللاشعور. لكن على الرغم من كل ذلك، ففي حقيقة الأمر، نجد أن مفهوم اللاشعور لم يظهر بهذه الفجائية في حقل محدد هو التحليل النفسي. بل نجد له تمهيدات في الفلسفة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. ففكرة أن هناك مضمرات وقوى خفية نفسية غائرة وغائبة متحكمة في وعي الإنسان، كانت رائجة، خصوصا عند الفلاسفة الألمان الذين نبهوا إلى وجود قوى مجهولة وعارمة لها السيادة على السلوكيات الإنسانية، و من بينهم آرثر شوبنهاور الذي أشار الى أن العالم المرئي يخفي تحته عالما أكثر حيوية وأكثر دفقا. فالحفر تحت السطح سيكشف لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية. تظهر في الطبيعة الخام، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه التي ليست بقراره أبدا.يقول الفيلسوف شوبنهاور :عندما تستيقظ فينا بكيفية فجائية إحدى الذكريات الماضية القاسية والمؤلمة، فإننا غالبا ما نعمل على استبعادها في الحين، بطريقة تكاد تكون آلية: إما عن طريق التلفظ بكلام مبهم، وإما بإتيان بعض الإشارات. ونحن نتوهم أننا بهذه الطريقة تمكنا من التخلص منها وإقصائها تماما(شوبنهاور سبق فرويد الى مفهوم الكبت كذلك)، و بالتالي بدأ مفهوم اللاشعور، كما رأينا، كحدس وكتأمل فلسفي، في القرن التاسع عشر، ليستقر كتصور واضح في التحليل النفسي، مع مؤسسه فرويد، بل سيصبح اللاشعور وفرويد، وجهين لعملة واحدة ، لكن الفيلسوف شوبنهاور بتفكيره سبق العالم النفساني فرويد باختباراته العيادية في مسألة الكبت و اللاشعور .

✔السوسيولوجيا و الفلسفة :

نشأ علم الإجتماع كغيره من العلوم في إطار الفلسفة، أو في أحضانها إن صح التعبير، واهتم بدراسة تاريخ الإنسانية، وتاريخ المجتمعات في نشوتها وارتقائها، وتدهورها وظهر في هذا النطاق ما يعرف بإسم فلسفة التاريخ التي شكلت مرحلة متميزة عن طريق نمو علم الاجتماع، واكتمال ملامحه. و كانت هناك بعض الإشارات لبزوغ هذا العلم في فلسفة التاريخ للعلامة ابن خلدون بما سماه في مقدمته القيمة بعلم العمران البشري و هو علم مستقل الموضوع على حد تعبيره ، لكن للأسف لم يأت بعد ابن خلدون أي خلف ، لأنه عربي ، و العرب لا ينتجون بل يستهلكون بشراهة و بغياب التعقل و التقبل. و بحلول الحداثة في ظل التقدم في شتى المجالات في أوروبا غدت المجتمعات الاوروبية في درب التغير كليا فتغير معها الإنسان الأوروبي و الذي اكتسب ميزات لم يسبقه اليها أحد ، ظهرت السوسيولوجيا باسمها الرنان مع الفرنسي أوغست كونت سماها في البداية بالفزياء الاجتماعية اقتداءا منه بالمنهج الطبيعي الوضعي و تركا للمنهج الفلسفي الميتافيزيقي يقول : أعني بالفزياء الاجتماعية العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة ، و باعتبار هذه الظواهر من صميم الظواهر العلمية ، من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة ، و هذا معناه أن كونت يعتبر الظواهر الاجتماعية ظواهر فيزيائية مادية مستقلة عن وعي الانسان و إرادته و بالتالي يمكن بناء معرفة علمية موضوعية حول الظواهر الانسانية بعيدا عن التأويلات الفلسفية العقيمة ، و جاء بعدها دوركايم ليبلور مبادئ العلمية في السوسيولوجيا و يميزها عن باقي العلوم منهجا و موضوعا في إطار مقاربته للعلوم الطبيعية و التي حققت نجاحا باهرا في تلك الفترة . و قبل السوسيولوجيا كان العلم الإجتماعي سائدا مع فلاسفة كجون جاك روسو و مونتيسكيو و غيرهم و حققوا التراكم المعرفي لعلم المجتمع .
و هذا هو دور الفلسفة الرئيسي ، إنها توفر الأرضية المعرفية لكل العلوم عبر تحقيق التراكم المعرفي الذي استفادت منه و لاتزال ، و فذلكة الكلام أن أهمية فلسفة العلم هي كأهمية علم الطيور للطيور .


عن الكاتب

ابراهيم ماين

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

يقظة الفكر