يقظة الفكر يقظة الفكر
");

آخر الأخبار

");
random
جاري التحميل ...

إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .

القبيلة المغربية من منظور انقسامي : المقاربة الأنغلوساكسونية

 


 يعتبر المغرب حقلا خصبا لإنتاج الفكر السوسيولوجي و الأنثروبولوجي ، فقد جنت منه الدراسات الكولونيالية ثمارها و أرست أسسها العلمية مع دوتي و ميشو بلير و روبير مونطاني ، و هي الأسس المثينة التي لا ضير لدينا في مدى قوتها و جودتها و غنى المعطيات التي ساهمت في تجميعها و عرضها ، و توالت بعدها أبحاث انهالت على المجتمع المغربي و خصوصا القبلي فيه ، بواسطة باحثين متخصصين ما انفكوا يدونون أدق التفاصيل عن الجهات التي يعبرونها ، و أعقبت عن زمرة من الوثائق الغنية، تراوحت بين المونوغرافيات، و النشرات، و التقارير، و البحوث و المذكرات ... ما زالت تثير في وقتنا الراهن شهية الدراسة؛ و الاطلاع، و تدعو إلى المزيد من التساؤل بصدد مناهجها، وإشكالياتها؛ و الخلاصات التي توصلت إليها بغرض مراجعتها، وتقويمها أو من أجل رسم حدودها .

 و تعد النظرية الإنقسامية من بين النظريات التي مارست إغراء كبيرا على الباحثين، خاصة المهتمين منهم بمجال المجتمع القروي بالمغرب ، و هي النظرية التي ستدشن لسوسيوأنثروبولوجيا أنكلوساكسونية حول المجتمع المغربي الذي أصبح بلدا يستقطب اهتمام باحثين من نفس الطينة منذ سنة 1960، ففي الفترة نفسها سوف تبدأ السوسيولوجيا الأنكلوساكسونية في اكتشاف المجتمع المغربي من خلال استخدام فرضيات وأطر تحليلية تنتمي إلى حقل الأطروحة الانقسامية التي قادها واعتمدها مجموعة من الباحثين الأنكلوسكسون وعلى رأسهم إفانز بريتشارد و جون واثر بوري و كليفورد غيرتز و دافيد هارت و إرنست غلنر ( سنعتمد على هذين النموذجين في المقال ) .

بين الكولونيالية و الإنقسامية :

استطاعت السوسيولوجيا الإنقسامية ، بحافز أنغلوساكسوني ، أن تتخطى النزعة الكولونيالية من خلال توزيعها لمجال البحث الميداني و محاولة الابتعاد عن التنظيرات الأيديولوجية المباشرة ، و قد ساعدت تلك الوضعية في أن تجلب لها العديد من الباحثين ، و رغم أن بعض الدارسين المحلين يصنفون الأطروحات الإنقسامية ضمن الأطروحات الإستعمارية ، إلا أنه لا يجب أن نتغافل عن الفوارق الزمنية ، حيث مازالت الانقسامية فاعلة في العديد من الكتابات التي تتخذ من المجتمعات المغربية موضوعا لها ، خصوصا في ما يتعلق بالمجال القروي و القبلي ، و لذلك يجب أن ننتبه الى اختلاف المنطلقات و السياقات و الخلفيات العامة بين المدرستين على الرغم من التأثير المتبادل و الذي لا يستطيع أحد إنكاره ، كما تتميز المدرسة الإنقسامية بقدرتها على صياغة نماذج نظرية و أدوات مفاهيمية متميزة بالنسبة الى ما كان يطغى على السوسيولوجيا الكولونيالية من نزعة اختبارية ضيقة و تركيز على جمع المعطيات ، و مركزية استشراقية أوروبية التي شكلت المنبع الأول في دراسة المجتمعات الإسلامية ، و ذلك في المرحلة الممتدة من الخمسينيات الى أواخر السبعينيات .

لقد جمعت السوسيولوجيا الإنقسامية بين التحليل البنيوي و الوظيفي في آن واحد ، فحاولت تحليل الميكانيزمات الداخلية و الظاهرية للمجتمعات ، مع اتجاه نحو فرز الظواهر و الأحداث و اعتماد التصنيف الذي يبلغ حد الجمالية ، مع ميل خاص الى تعميم الجزئيات على العام ، أي على المجتمع الكلي ، و قد ركزت بدورها ، شأن الكولونيالية ، على العلاقات القبلية و اعتبرتها خصوصية اجتماعية تتوارى خلف الإرث القديم للقبيلة المغربية ، و يتميز هنا التحليل الإنقسامي بحيويته في تبسيط المعطيات و استخدام الرسوم البيانية و الرموز و الأشكال التخطيطية ، فضلا عن استمال الإحصاءات و المقارنات ، و قد سعت الإنقسامية الى استعادة دراسة بعض المجالات التي عالجتها المدرسة الكولونيالية و استفادت ذلك من تجربتها في التحريات الميدانية

الجذور المعرفية للنظرية الإنقسامية : 

قد تبدو هذه النظرية إذن، وفي تركيزها الشديد هذا على مفهوم النسب، أقرب إلى نظرية ابن خلدون حول “العصبية القبلية”، لدرجة “يصبح ابن خلدون عندها أب الانقساميين خاصة لما يعالج علاقة الدولة بالمجتمع ومسألة اللاتمركز عند المغاربيين. وهنا بالذات تكمن إحدى أسس الطرح الانقسامي التي لم تأخذ حقها بما يكفي من الدراسة والتحليل. خصوصا نظريته  حول"العصبية والدولة" كما صاغها في مقدمته الشهيرة، فإن الأساس النظري والإبستمولوجي – بالمعنى الدقيق للمفهوم – والذي يؤسس لهذه الأطروحة، قد يعود بأصوله إلى السوسيولوجيا الوضعية خاصة مع إميل دوركهايم  . ونستحضر هنا بالتحديد، الطرح الجنيني للأطروحات الإنقسامية مع دوركهايم ، و خاصة في كتابه " في تقسيم العمل الإجتماعي" ، حينما أشار الى مجموعة " القبايل" من ناحية ، و استخدام لأول مرة لمفهوم الانقسامية للدلالة على أن الجتمع الانقسامي ذي التضامن الميكانيكي ، يقوم على مبدأ التشابه بين كيانات مستقلة و قائمة بذاتها ، إذ يقول : " ليكون التنظيم الانقسامي ممكنا ينبغي أن تتشابه القسمات ، و بدون هذا التشابه لا يمكنها أن تتحد و أن تتباين في نفس الوقت ، إذ بدون هذا التباين سيضيع بعضها في بعض و ينتهي بها المطاف الى التلاشي" . و بقطع النظر مع العمل الذي أنجزه إيفانز بريتشارد حول قبيلة (( النوير)) جنوبي السودان ، لأن ذلك يمثل مجالا مغايرا ، فإن بريتشارد يمثل أول المطبقين الفعليين لمباد هذه المدرسة ، و كان مساعدا لراد كليف براون ، أول من عاين من خلال البحث الميداني أمثلة من المجتمعات الانقسامية .

إرنست غيلنر : بين الإنقسامية و الهامشية 

إن ما شغل بال غيلنر في هذا التنظيم هو سؤال  ذو طبيعة سياسية وهو في العمق سؤال يريد الكشف عن طبيعة البناء الذي يحكم نسق السلطة في الأطلس المتوسط الذي هو نسق متشابك يكاد السياسي فيه لا ينجلي أمام الديني، والاجتماعي أمام الثقافي؛ أي أنه سؤال هندسي المراد منه تفكيك البنية العامة لقبائل أحنصال ، و هو ما مفاده : مفاده:كيف تنتظم الحياة الاجتماعية في قبائل الأطلس في غياب سلطة مركزية؟ أو بعبارة أخرى كيف يتم الحفاظ على الاستقرار والأمن في غياب جهاز الدولة؟

حري بنا القول أن أول من حاول تطبيق هذه النظرية في المجتمع المغربي هم زمرة من الباحثين والعلماء في هذا الميدان من بينهم إرنست غلنر في مونوغرافيته الشهيرة "صلحاء الأطلس" و دراسته الاستقصائية لزاوية " سيدي سعيد أحنصال ". و رأى غلينر في خصائص الانقسامية نموذجا يمكن تطبيقه في المجتمع المغربي، وبالتالي برز التحليل الانقسامي في الإرث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي مع المدرسة الأنكلوسكسونية بالأساس، كما تزامن هذا الاهتمام مع بداية تفكك القبائل وتصاعد سيطرة الحكم المركزي. 

اعتبر ارنست غيلنر أن للقبيلة المغربية نفس الخصائص التي تميز المجتمعات الانقسامية ، فالقبائل تنطوي على هرمية متدرجة بحسب الحجم و القوة ، و هي تنظيمات تشخص في دوار متفاوتة الأحجام أو أشجار متكاثرة الفروع ، حيث كل فرع يبين مستوى معين من الانقسام و ينقسم بدوره الى أجزاء ، حيث يستمر التجزؤ الى أن نصل الى مستوى الوحدات الصغرى و العائلية البسيطة . إن ما شغل بال غيلنر في هذا التنظيم هو سؤال  ذو طبيعة سياسية وهو في العمق سؤال يريد الكشف عن طبيعة البناء الذي يحكم نسق السلطة في الأطلس المتوسط الذي هو نسق متشابك يكاد السياسي فيه لا ينجلي أمام الديني، والاجتماعي أمام الثقافي؛ أي أنه سؤال هندسي المراد منه تفكيك البنية العامة لقبائل أحنصال ، و هو ما مفاده : مفاده:كيف تنتظم الحياة الاجتماعية في قبائل الأطلس في غياب سلطة مركزية؟ أو بعبارة أخرى كيف يتم الحفاظ على الاستقرار والأمن في غياب جهاز الدولة؟

أجاب عن هذا السؤال بأن المجتمع الانقسامي قائم على التوازن الاجتماعي بين مبدأين : مبدأ الانصهار( التحالف ) ، و مبدأ الانشطار ( التعارض ) ، حيث يشكلان حالتين من حياة اجماعة ، تظهر الأولى في حالة الخطر و فقدان الأمن فيسود التضامن و التكافل و التآزر و التوحد و التكتل لمواجهة التهديدات الخارجية عبر تشكيل أنظمة " اللف" و هي تحالفات حربية للدفاع المشترك ترمي الى الحفاظ على توازن القوى بين قبيلتين أو لفين متعارضين . و تظهر الثانية في حالات السلم و الهدوء حينما يدب الصراع بين الفروق القبيلية و ينجلي النزاع بين القسمات المتجاورة ، إذن ، فالصراع في مستويات أدنى لا ينفي أبدا وجود أشكال من التعاون و التحالف على مستويات أعلى .

و لتفسير هذه الوضعيات و تبسيطها يستدعي الانقساميون المثل العربي المنسوب الى ابن خلدون و الذي يقول : (( أنا ضد أخي ، و أنا و أخي ضد ابن عمي ، و أنا و أخي و ابن عمي ضد الغريب أو الدخيل )) . و منه  يرى غيلنر أن المجتمع في هذه القبائل ينتظم بشكل تلقائي في ظل غياب السلطة المركزية، بل يعتبر أن الأجزاء التي يتكون منها المجتمع هي دائما في تعارض مستمر، هذا التعارض هو الذي يسمح في نفس الوقت بالتلاحم بين العناصر المشكلة للنسق، إن أساس هذا التعارض والتناقض يقول غلنر يستند على التساوي مما يحقق النظام .

اعتبر غيلنر أن المجتمع الانقسامي المغربي مجتمع يتسم بظاهرتين : الانقسامية و هي خاصية بنيوية ، و الهامشية ، و هي خاصية مجالية تتصل بالموقع ، هذان المفهومان متكاملان ، و قد تنبه غيلنر الى خصوصية المجتمع الانقسامي الإسلامي ، و يعد من المساهمين البارزين في تطور نظريات العلوم الاجتماعية حول الإسلام والعالم الإسلامي أو ما سيعرف لاحقا بأنثروبولوجيا الإسلام؛ غير أن المغرب شكل حقل اختبار تلك النظريات والفرضيات التي اشتغل عليها غلنر، فهو يقارب بأبحاثه الكيفيات التي يتعايش بها المجتمع مع الدين؛ معتمدا في ذلك على سلوك المجتمع وحياته اليومية وروابطه الداخلية وتحديدا على الدورة اليومية للحياة الدينية أكثر من الاعتماد على النصوص مستنتجا الفروق الكبيرة لتلك الحياة الدينية بالمقارنة مع بيئة وجوده سواء في القبيلة أو في المدينة.

أ) الهامشية ذات الأبعاد غير المجالية :

يركز غيلنر على الهامشية السياسية انطلاقا من سؤاله السالف الذكر يتضح هذا السياق ، و تغاضى عن الهامشية الثقافية ، و الهامشية هنا و عموما تمثل انقسامية من نوع اخر ، لأن المجتمع الهامشي عند الانقساميين يطرح كيانا موازيا أو مواجها للمجتمع المركزي أو المخزني و هذا ما أشار اليه ميشو بلير سابقا في سوسيولوجية المخزن ، و لا ريب في أن ذلك مبالغة و تعال على التاريخ ، فالمجتمع القبلي الخارج عادة عن مجال السلطة المركزية ، يتكون من نظام قبلي محكوم بالولاء الذي يتجاوز مجرد الدعوة للسلطان في المنابر ، كما أن التاريخ السياسي للمجتمع المحلي لم يكن تاريخا خطيا على الدوام بل كان ديناميكيا متراوحا بين التمركز و الانقسام ، و كان بول باسكون في نفس السياق قد دافع عن فكرة الوحدة و دحض فكرة استقلالية المناطق النائية عن المركز .

ويغلب على ظن غيلنر أن هذا النظام هو الذي ساعد قبائل الأطلس الكبير المركزي على تفادي السقوط في قبضة الاستبداد القاسي الذي هيمن بصورة عابرة على الجزء الغربي من الأطلس الكبير خلال القرن العشرين ، مما جعلها تعيش أقصى درجات الهامشية بحيث تتمفصل مع السلطة المركزية لكنها مع ذلك تتخذ مسافة معينة منها. على أنه في إطار هذه الهامشية تستطيع القبائل ضمان استمراريتها والمحافظة وعلى توازناتها بفعل حضور أكرام أو الصالح. فالمرابطون ؛حسب غيلنر ؛رغم كونهم يقطنون في المناطق المحايدة بين القبائل؛ فإنهم يضطلعون بأدوار من الأهمية بمكان داخل القبيلة مثل تنظيم المبادلات التجارية ومساعدة  الزوار الذين يفدون على الأسواق المجاورة لهم وضمان أمن الحدود؛ وتنظيم انتخابات من أجل اختيار الأمغارات؛ إلى جانب اضطلاعهم بدور فض النزاعات بين المتخاصمين ... وتعود أسباب ذلك إلى كونهم شخصيات "محايدة ومسالمة" وفوق كل نزاع قبلي انقسامي؛ و لربما هذا  هو ما أهلهم للقيام بأدوار تحكيمية بحسبان أنهم يتوفرون على وسائل الإقناع وعناصر الوساطة؛ خصوصا وأن رجال القبائل يعتقدون بان سلطة المرابط  سلطة روحية هائلة تصدر عن الله وليس بوسع البشر رسم حدود لها.

ب) الانقسامية و خصائصها : 

لفهم البنية العامة التي قدمها غيلنر للمجال الذي قام بدراسته ، ينبغي أن نقدم العناصر التي تحكمه و الخصائص الذي تميزه و هي كالتالي : 

   ⇦هيمنة النسب الأبوي على المجتمع ، و تنعكس العلاقات القرابية في مستوى المجال الجغرافي ، لأن  لكل قبيلة موطنها و جدها الخاص .

   ⇦مبدأ الانصهار و الانشطار أو التحالف و التعارض

  ⇦وجود وسطاء بين الفرق القبلية لتحقيق التوازنات و ضمان أمر الحدود و هنا يبرز الدور التحكيمي الذي تضطلع به المجموعات الدينية ، خاصة الصلحاء و الزوايا .

و من المفاهيم التي اقتبسها غيلنر عن مونطاني مفهوم " الديموقراطية " ، و هو مفهوم تفنن أتباع المدرستين في تطبيقه على المجموعات الأمازيغية ، و مع ذلك فهي ديموقراطية قبلية ، و ديموقراطية بنيوية تتميز بغياب الوازع الأيديولوجي ، هذا الوضع الذي يتميز بغياب تراتبية إجتماعية لا يعني غيابها الكلي، في شكل “أعيان” يظهرون بالخصوص في فترات الصراع والنزاع، هذا الزعيم يتم إنتخابه في إطار عملية ديموقراطية ،حيث يتم انتخاب “امغار” في عشيرة ما لترؤس القبيلة بشكل تناوبي بين العشائر المشكلة للقبيلة، على رأس كل سنة، ويشترط هذا التنظيم وجود حكام ووسطاء أجانب للحفاظ على فعاليته. وهنا يبرز دور الدين، وبصورة أدق دور الصلحاء (إكرامن)، ولكون هؤلاء يعيشون في المناطق الفاصلة بين القبائل، فإنهم يتكلفون بضمان أمن الحدود، كما تجري الإنتخابات الدورية لتعيين رؤساء القبائل تحت إشرافهم وعلى أرضهم، إليهم يلجأ القتلة لإلتماس الوساطة، كما يساعدون على تسيير المبادلات داخل القبيلة الواحدة وبين القبائل بإحتضان الأسواق والمواسم على اراضيهم، ويكونون شرفاء من ذرية الرسول، يحضون بالبركة وتتمتع مناطق نفودهم بالحرمة.  

تصدى ارنست غيلنر أيضا لموضوع المعتقدات الدينية في القبائل و المناطق الهامشية في المغرب ، و بالتركيز على دراسته الميدانية على زاوية احنصال ، حيث أبرز التباين الشديد في الدين الإسلامي ، بين الجانب الفقهي الأرثودكسي و الجانب الممارساتي الشعبي ، و اعتبر الاول دينا يمكث المدن و يعتنقه سكانها على اعتبار ما كانت المدن المغربية القديمة من علماء في الفقه ، أما الثاني فهو الذي يحتضنه سكان القرى و القبائل و التي اختارت طريقا ينافي تشددات الإسلام من زاوية التشريع و السنة ، و هذا الإسلام هو اسلام الزوايا و الأضرحة و الأولياء ، و هي تمظهرات لم تكن واردة في النصوص الدينية الإسلامية ، لكن الأمازيغ قاموا بإدخالها الى الإسلام ، اي تمت أسلمة المعتقدات و الطقوس الوثنية الأمازيغية بتعبير إدموند دوتي . و أعزى ارنست غيلنر أسباب هذا التباين الى جهل سكان القبائل باللغة العربية كلغة دخيلة و لا جذور لها في أرضهم ، و استعصى عليهم تعلمها نظرا الى تأصل الأمازيغية في ثراتهم و ثقافتهم ، و بالتالي قاموا بابتكار وسطاء بينهم و بين الدين الإسلامي ، يتم توصيله بطريقة سلسة بعيدا عن التعقيدات المفهومية و اللغوية و استعمال الأمازيغية لهذا المغزى ، على عكس سكان المدن الذين توفر لهم التعليم في مؤسسات دينية تلقن مبادئ الإسلام و تتعمق في اللغة العربية و السنة و علوم الكلام و االفقه ، و كونهم كذلك يزاولون التجارة التي تخول لهم الاحتكاك بثقافات متعددة و النهل منها شتى المعارف . و من هنا نشأ جذر التناقض .

وظائف زاوية أحنصال كنموذج تطبيقي عند غيلنر:

يمكن تحديد أدوار و وظائف زاوية سيدي سعيد أحنصال عند غيلنر في مستويات عدة ، فيها ما هو ديني ، و ما هو اجتماعي ، و ما هو أمني و اقتصادي . فالزاوية على المستوى الديني توفر تعليما لمبادئ الإسلام و للقرآن و السنة ، و تشرب مريديها القيم الإسلامية السمحة . أما على المستوى الاجتماعي فالزاوية تلعب دورا مهما في تدبير النزاعات و فض الصراعات و التهدئة و فرض الهدنىة بين القبائل ، و هي الصراعات التي قد تنشب لأسباب عديدة منها تقسيم المراعي و الأودية و الماء , و ما هو أمني يتمثل في تأمين حركة القوافل التجارية و حماية المسافرين ، أما ما هو اقتصادي فيتجلى في تسيير و تنظيم المواسم و الأسواق . و ذكر هنا الأستاذ عبد الله حمودي بأن صلحاء زاوية أحنصال التي درسها غيلنر كانوا يتميزون بقدرة هائلة على إخماد الفتن بالقتال الضاري الشيء الذي يجرنا إلى القول بأن "الأكرام" زعيم عسكري يقود جموعه التي يرتكب بها أحيانا  مجازر وحشية في حق معارضين الأمرالذي يضحى معه خطرا على السلطان نفسه كما حدث مع الولي سيدي يوسف  أحنصال. وهو ما يقذف بنا إبى القول بأن مسالمة الصلحاء، و أدوارهم التحكيمية بين القسمات المتنازعة؛ كما لاحظ غيلنر، تظل في تقديرنا في غاية النسبية.

دافييد هارت : تطبيق النظرية الإنقسامية على قبائل "ايت ورياغل" ، "ايت عطا" ، "ايت باعمران"

القبيلة مجموعة متماسكة ومستقلة سياسيا واجتماعيا تعيش أو تطالب بمنطقة محددة خاصة بها

إن كثافة الدراسات التي أنجزها دافيد هارت على القبائل المغربية لهو خير دليل على شغفه و ولعه بالقبيلة المغربية و ما يكتنفها من أسرار متعلقة بالبنيات الاجتماعية التي تحتويها و الأنظمة السياسية و الاقتصادية و العقارية التي تخصها ، لكن هنا ، لن نجرد جميع الدراسات لهذا السوسيولوجي العظيم ،  بل سنكتفي بالدراسة والأطروحة التي قدمها دايفيدهارت " أيت ورياغل، قبيلة من الريف المغربي" ، و التي تعتبر من أبرز الدراسات حول مختلف بنيات المجتمع المغربي خلال القرن (20)، خاصة وأنها تمثل أهم مرجع مفصل ومدقق حول الريف الأوسط على مختلف المستويات. إن أهمية هذا العمل تتجلى في كونه "أول دراسة ميدانية معمقة حول قبيلة أيت ورياغر بالريف الأوسط شملت معظم الظواهر الاجتماعية للقبيلة، كالممارسات الإسلامية، والتراتب الاجتماعي، وبنية القبيلة ونظامها السياسي، والأخلاق القبلية، والبنية الاقتصادية ،و ما قام به هارت يعتبر دراسة قيمة جدا وهو عمل يعد من الطراز الأكاديمي الرفيع والضخم".

 وكمدخل منهجي اعتمده هارت، استهل الباحث موضوعه ( المرجو الاطلاع على مرجع كتابه : " أيت ورياغل، قبيلة من الريف المغربي" ) بوضع تعريف للقبيلة باعتبارها "مجموعة متماسكة ومستقلة سياسيا واجتماعيا تعيش أو تطالب بمنطقة محددة خاصة بها". كما يقف في نفس الوقت عند تعريف أفانس ريتشارد الذي يورد مجموعة من المعايير التي تؤسس لمفهوم القبيلة لدى الانتروبرلوجيين الاجتماعيين.

ومن جملة القضايا التي عالجها هارت ضمن كتابه، ما يتعلق بأسس السوسيولوجيا السياسية المغربية ،بجانب الدراسات التاريخية حول المغرب، كبلد "كان موحدا نظريا" قبل مرحلة الحماية تحت قيادة السلطان، ومقسما في الواقع وفق ثلاثة محاور أساسية وهي : محور عربي – أمازيغي( ميشو بلير )، محور حضري- قروي ومحور مخزني - سيبة أو حكومة- تمرد وانشقاق كما ذكرنا في المقدمة . بعد ذلك ينتقل هارت إلى تقديم ملاحظات عامة حول البنيات القبلية المغربية من حيث الانقسام الذي يقول عنه هارت: "المبدأ الأول في الانقسام يفيد أن كل قبيلة سواء كانت تحمل اسما مزعوما لجد مشترك أو لمكان مفترض لأصلها أو لأي نوع من الأسماء فهي تقسم أو تجزأ إلى مجموعة من القسمات  التي نادرا ما يتجاوز عددها خمسا في المغرب مثلا. وتجزأ كل قسيمة إلى قسمين صغيرين ثم تجزأ هذه الأخيرة إلى سلالات كبرى ثم إلى سلالات صغرى ثم أصغر منها إلى أن نصل إلى مستوى العائلة النووية المكونة من الأب وألام والأبناء غير المتزوجين، وأهم نقطة بالنسبة للأنساق الانقسامية للقبيلة المغربية هي أنها تشتمل على كل هذه الوحدات، كل واحدة منها متضمنة في الثانية في المستوى الذي يليها، وكلما كبرت الوحدة إلا وتعذر تتبع شجرة النسب بها إلى أن تصل إلى المستوى الأعلى الذي يكون فيه عامل النسب غير قابل للتطبيق وغير ذي أهمية" .
واضح أن دايفيد هارت يحاول هنا التطرق إلى مجموعة من مظاهر ومعايير الأطروحة أو النظرية الانقسامية التي اعتمدها كمنهج لتحليل بنية قبلية أيت ورياغر على مستوى تكون وانقسام السلالات، أما من حيث الأنظمة الاقتصادية والسياسية للقبيلة، فيذكر هارت ما يلي: لكل قبيلة اسم ومجال خاص بها، ولكل قسمة ضمن القبيلة حصتها من هذا المجال،هكذا يصبح النظام العام للملكية القبلية للأرض في الواقع هو النسق الانقسامي ذاته الذي يتجلى من خلال تطور شجرة النسب زمنيا ويتضح على الأرض مكانيا، ولهذا المبدأ أهمية كبيرة لفهم تعقيدات البنية الاجتماعية والمجالية لأيت ورياغل".
ومن مميزات النظام الاقتصادي القائم لدى أغلب القبائل، كونها قبائل مستقرة تعتمد على الزراعة مقابل بعض القبائل الأخرى التي تعتمد على الإنتاج أو الترحال ، إضافة إلى خاصية أخرى يتميز بها النظام القبلي في جميع أنحاء المغرب وتتمثل في تواجد سوق أسبوعي، الذي يعد يوما للتبادل التجاري وفرصة للتواصل الاجتماعي ويوم سلم بامتياز.
أما من جانب مميزات النظام السياسي القائم داخل بنية القبيلة المغربية، فيذكر السوسيولوجي الأمريكي تواجد شرفاء يعيشون ضمن القبائل ويتمثل دورهم في التحكيم لحل النزاعات داخل وخارج القبيلة تماما كما عاين غيلنر، وكذا وجود نظام للمجالس التمثيلية بالنسبة لأكبر المستويات الانقسامية بالمناطق الأمازيغية أو ما يسميه هارت ب "أنظمة منظمة دون زعامة" خصوصا في السياق السياسي بالريف الأوسط، إضافة إلى توزيع السلطة السياسية والعمل على لاتمركزها بكل المناطق التي تتواجد بها القبائل المستقرة وفق نظام "التناوب والانتخاب المتبادل" كما يسميه كيلنر، مع وجود قانون عرفي يؤطر العلاقات الاجتماعية وتشريع خاص بالقتل والسرقة...
ويضيف دايفيد هارت عن طبيعة المجتمع القبلي بالمغرب خلال مرحلة الحماية وكذا بعد الاستقلال، لا سيما التغيرات التي طرأت على المجتمع ونمط حياة وعيش السكان بفعل دخول المستعمر واتباعه لسياسة استعمارية معنية، وأيضا يشير هارت إلى ما لحق بنية القببيلة المغربية كنتيجة موضوعية للمخاضات التي عاشها المغرب إبان هذه الفترة والتي تميزت باندلاع انتفاضات وثورات بكل من الجنوب الشرقي(1957) ووسط الأطلس (1958) والريف 1958-1959).
ورغم ما سبق، فإن الباحث الأمريكي يقر بكون "القبلية لا زال لها تأثير على الحكومية المركزية حتى في وقتنا هذا، وهذا ما ينطبق على القبيلة الأمازيغية"، كما يناقش هارت علاقة القبيلة والدولة والإسلام، هذا الأخير الذي يعتبر في الدول الإسلامية "القاسم الثقافي المشترك الأدنى وفي نفس الوقت الأكثر أهمية" على حد قول صاحب أطروحة "أيت ورياغل، قبيلة من الريف المغربي".
النظام الإقتصادي و السكاني للقبيلة :
تحدث هارت عن بيانات وإحصائيات حول سكان الريف الأوسط التي ترسم فكرة واضحة عن المعطيات الديمغرافية لقبيلة أيت ورياغر، معززا ذلك بجداول وأرقام وإحصائيات تتعلق بالإحصاء الإسباني لسنة 1929و1938 والإحصاء الفرنسي لسنة 1939 والإحصاء المغربي لسنة 1960، وهي أرقام تعطي فكرة عن مستوى النمو الديمغرافي والكثافة السكانية الخاصة بقبائل أيث ورياغل وتمسمان وأيت توزين وأيت عمارت وابقوين، الأمر الذي جعل هارت يقول: "إن عدد سكان هذه القبيلة كبير جدا، إن لم نقل إنها أكبر قبيلة في الشمال المغربي إذا أخذنا بعين الاعتبار كونها كتلة قبلية واحدة، غير أن نسبة الكثافة السكانية بها تبقى خارقة، وما يجعلها مذهلة حقا ليس كونها الأعلى حاليا في العالم القروي بالمغرب فحسب، بل باستثناء القبايل بالجزائر- هي الأقوى على صعيد بوادي شمال إفريقيا كلها").

انتقل هنا هارت ليلقي نظرة على الزراعة بالقبيلة بنوعيها المسقي والبوري، كأساس للمقومات الاقتصادية في الحياة الريفية إلى جانب تربية المواشي. ضمن مجال خاص بالقبيلة ، كما يتوقف هارت عند العلاقات التعاقدية والتعاونية في مجال الزراعة وتربية الماشية، ومن نماذج هذه العلاقات التعاقدية نظام "أخماس" و"توشركا" و"ثاويزا" ونماذج أخرى من "المؤسسات الاقتصادية غير التعاقدية التي تؤكد على أهمية التعاون والتعاقد في الحياة اليومية للقبيلة". إلى جانب أنشطة تكميلية ثانوية أخرى مثل القنص والصيد البري وبعض المهن والحرف التي كانت تتم مزاولتها مثل الصناعة التقليدية والخياطة والتجارة والبناء، وهو ما يعززها هارت بجداول وأرقام تعكس هذه الوضعية. كما لا يخفى عليه توفر كل القبائل المغربية تقريبا على أسواق أسبوعية تؤدي وظائف عديدة في الحياة القبلية باعتبارها مركزا لهذه القبائل على المستوى الاقتصادي والتواصلي والاجتماعي والسياسي. فنموذج  أيت ورياغر مثلا التي تعتبر أكبر مجموعة قبلية في شمال المغرب تتوفر على أسواق تفوق في عددها مثيلاتها من القبائل، كما يقف هارت عند ما يرتبط بهذه الأسواق من اختلافات وكذا نوعيتها وحجم روحها. وإضافة إلى مشاهد أخرى تطبع حياة السوق القبلي بمختلف مناطق أيت ورياغر. ومن القضايا التي تطرق لها ايضاعندها هارت ظاهرة الأسواق النسائية كظاهرة خاصة موجودة ومؤسسة ينفرد بها الريف منذ القدم، وهي ظاهرة يعتبرها دايفيد هارت ترتبط بالقانون العرفي الريفي كعامل أساسي أدى إلى ظهور هذه الأسواق.

النظام العقاري للقبيلة :

يتناول هارت أنواع وأنظمة الملكية وبعض المفاهيم المرتبطة بها وبامتلاك الأراضي على وجه الخصوص. ويتحدث هارت عن ذلك قائلا: "يصنف امتلاك الأراضي أو العقار في منطقة أيت ورياغر، كما هو الأمر في باقي مناطق المغرب والعالم الإسلامي، إلى ثلاثة أنواع أساسية تقليدية. وهذه الأنواع هي: أولا: "رمرك" أي الأملاك والأراضي الخاصة، وثانيا "رمشوع" أي الأراضي الجماعية المستعملة عادة كمراع وهي في ملكية الجماعة، ثالثا "رحبوس" أي أراضي الأحباس الموقوفة للمساجد كعمل خيري من طرف المحسنين".
علاوة على نوع رابع وهو "رحورم" وهو مجموع الأراضي المحيطة بالمساجد ومقابر الأولياء والصلحاء.
 وسيتعرض هارت العديد من الأحكام المتعلقة بالتعامل مع الحالات العادية والخاصة في الإرث. وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المبادئ الأساسية التي تتحكم في نظام السقي وعملية توزيع المياه في أيت ورياغر، والتي حددها في أربعة مبادئ وهي: تقسيم المياه حسب تقسيم الأرض نفسها،تقسيم المياه حسب الأولويات،ملكية الأنهار جماعية،حق الأسبقية للساكنين بجوار المنابع الكبرى لمجاري المياه على القاطنين قرب الجهة السفلى لنفس المجاري. كما تطرق الكاتب إلى مجموعة من القواعد المنطقة لملكية الأرض والمياه المرتبطة بها بين مجموعة من العائلات والسلالات، وكما يعزز ذلك برسوم توضيحية للمجموعات الرئيسية المتفرعة عن كل من واد عيس وواد النكور
ضافة إلى ذلك، يتحدث هارت عن أنواع المنازل وطرق البناء من حيث أدوات الاستعمال وإحجام المنازل ومكوناتها وبعض المرافق الخارجية وكذا الأثاث المنزلي والأواني وأدوات فلاحية كلاسيكية أخرى .

مظاهر التدين في المجتمع القبلي :

تعرض هارت للعديد من الطقوس الدورية في الريف الأوسط، مثل طقوس الولادة والعقيقة والختان والزواج والوفاة وكذا أنواع الألعاب السائدة بهذه المنطقة. وكذا التمييز بين الرجل والمرأة وموقف الورياغليين من الجنس كأهم المواضيع الثقافية في منطقة الريف التي تثير العديد من التساؤلات. علاوة على الطقوس المصاحبة للزواج وتربية الأطفال وأمور الطلاق والترمل والزواج ثانية وعملية الدفن وكل ما يربط بدورة الحياة لدى مجتمع أيت ورياغر الذي تتميز داخله الحياة الاجتماعية بالقوة وشدة الارتباط، وتأخذ فيه كل هذه الطقوس المصاحبة لمختلف مظاهر دورة الحياة عدة دلالات ثقافية وحضارات، خصوصية وكونية.

كما تحدث هارت عن أركان الإسلام الخمس والأعياد والاحتفالات الدينية وغير الدينية بأيت ورياغل،(اغف اوسكاس) و(ارعنصات) وما يرافقها من طقوس. كما أسهب في وصف المساجد والتعليم التقليدي ومختلف مراحل التعليم واكتساب العلوم الدينية والشرعية. كما يتطرق الانتروبولوجي هارت إلى الشرفاء وظاهرة تبجيل الأولياء بايث ورياغ ر(امرابظن) وكذا قدرات الصلحاء المحليين وأضرحة الأولياء الموجودين بقبيلة ايث ورياغل، إضافة إلى الطرق الدينية حيث ركز عن الزاوية الدرقاوية ، يقول هارت: "لقد انتشر الإسلام في الريف في مرحلة مبكرة جدا وسرعان ما انغرس في هذا المجتمع الأمازيغي وحظي بقبول كامل من طرف أعضائه إلى درجة أصبح معها أي تلميح إلى وثنية الأمازيغيين في هذه المنطقة ،وربما أكثر من أية منطقة أخرى هو نسيج من وحي الخيال" .

و من جملة ما يتناوله دايفيد هارت عن التدين القبلي، الخرافات والأساطير والحكايات الشعبية التي صنفها هارت إلى ثلاثة أنواع، وهي: أولا تلك المرتبطة بشخصيات من العهد القديم، ثانيا الحكايات التي تروى على لسان الحيوانات أو الشخوص، أما الثالثة فتتعلق بأشخاص افتراضيين متخيلين عموما.

انتقادات للنظرية الانقسامية :

واجهت النظرية الانقسامية ، و خاصة مقولتي خطالنسب الأبوي و القداسة ، نقدا لاذعا من أنثروبولوجيين و سوسيولوجيين من أمثال جاك بيرك و حمودي و الخطيبي ، و هذا الأخير اعتبر هذه النظرية قدمت إضافات مهمة في مجال معرفة المراتب الاجتماعية التقليدية ، و لكن عيبها أنها تجاهلت تاريخ التطور الحقيقي للمجتمع المغربي ، أما الكيلاني فقد اعتبر ان الأنثروبولوجيا التاريخية وحدها قادرة على تجاوز أزمة الانقسامية ، لأن بإمكانها أن تحقق التمفصل ين البنيات الاجتماعية و التاريخ ، لأنها تتحاشى في دراساتها عزل المجتمعات عن سياقها الاجتماعي و التاريخي . أما  العروي في إنتقاده للبناء النظري الإنقسامي للمدرسة الأنكلوساكسونية، إعتبر أن الإنقسامية ما هي إلا إعادة تسمية مصطلح الديموقراطية لدى مونطاني، والهامشية إسم جديد لعملية الإنزواء التاريخي لدى بيرك. لكي يخرج إلى أن الإنقسامية لم تأتي بجديد سوى أنها بدلت المصطلحات بأخرى، وبقيت في المكان الذي وصلت إليه الأبحاث الفركوفونية. إن ما قدمه غيلنر مثلا  كان مبنيا في الأصل على نموذج جاهز ومسبق هو في طبيعته النظرية الانقسامية التي اعتمدها كثيرون في إطار بحثهم المستمر عن ملامح وطبيعة البنيات التي تحكم مجتمعا صاعدا اسمه المغرب، حيث ستأتي فيما بعد أطروحات لسوسيولوجيين وأنثروبولوجيون آخرون ينتمون إلى بلدان مختلفة سوف يرون في النظرية الانقسامية ضعفا لا يمكن أن يؤدي بنا إلى فهم عميق لبنيات المجتمع المغربي وطبيعته الأصيلة، بل سيرون أنها حكم مسبقا وغير مجدي بحثا عن نموذج جديد ربما يكون من صميم هذا المجتمع نفسه قصد فهم ملامحه وأنماطه وطبيعته دون أن يؤتى به مسبقا لينزل كقالب يعقد طبيعة المجتمع أكثر ما يوضحها و انتقد العروي كذلك غيلنر في جمعه بين مفهومي الهامشية و الانقسامية ، و هذه المحاولة من غيلنر تنطوي على تناقض في تأويل الأساطير و الروايات الشفوية التي تؤكد وجود علاقات مع العالم الخارجي و في ذلك تأويل لا تاريخي. فالانقسامية عند العروي إذن غارقة في الشكلانية الة حد تفقد معه القدرة على التفسير .

هل يمكن التنبيه كذلك الى مخاطر التفسير الأحادي للتاريخ الاجتماعي القبلي بمبدأ الأمن الذي يحققه الصلحاء ؟ فالاعتماد على مقولة الأمن كمعطى وحيد لتفسير التوازن الاجتماعي و السياسي الداخلي في المجتمع القبلي يبدو أمرا مبالغا فيه لأن الأخطار و الحروب و النزاعات ليست معطيات دائمة ، بل هي حالات لا تعدو أن تكون طارئة و جزئية ، هذا الهاجس لا يكاد يغيب عن تحليل غيلنر ، مثل اعتباره أن القبائل تمثل دوما عنصرا يهدد المدن ، و التاريخ يبين لنا في كل الأقطار المغربية قبائل مخزنية ، بمعنى تلك القبال التي تخدم المركز و السلطة و لا تهددها بل تدافع عنها ، كما أن هذا المركز المدعوم بمحيط قبلي يحتاج الى المجموعات الأخرى النائية عنه بشتى أنواع التنائي ، و تكفي متابعة أشكال التبادل الاقتصادي و الثقافي التي سادت بين المركز و المحيط ، بقطع النظر عن العلاقة الضرائبية .

تنويه :

إن النقاش الذي أثارته الأنتروبولوجية و السوسيولوجيا الإنقسامية بين الباحثين، لا يحول دون الإعتراف بالمجهود النظري لهذه المقاربة، وكذا القيمة الأكاديمية للنتائج التي توصلوا إليها، وإذا كان هناك من مؤاخذات سجلناها لدى الباحثين الإجتماعيين المغاربة على هذه المقاربة، فإنها تدخل في إغناء البحث العلمي السوسيولوجي والإنتروبولوجي الوطني، الذي ما أحوجنا إلى مراكمة المزيد منه خصوصا وأن العديد من الظواهر الإجتماعية تغزوا واقعنا، سواء في شكل التغييرات البنيوية للهياكل الإجتماعية، أو في السلوكات الجديدة التي تأخذ شكلا جماعيا لا تخطئه العين. وهذه المؤاخذات نجملها في كون المقاربة المعتمدة من قبل هؤلاء الباحثين أسقطت على المجتمع المغربي دون أن تنتبه إلى إحتمالات الإختلاف بين البيئات التي كانت موضوعها فيما سبق، ويتعلق الأمر بمجتمع النوير في السودان وما يؤكد ما ذهبنا إليه هو تلك الإنتقادات المشار إليها آنفا والذي تؤكد على الأمر، خصوصا إنتقادات عبد الله العروي في جانبها التاريخي، وإنتقاذ عبد الله حمودي في جانبها المنهجي العلمي.

المراجع المعتمدة في المقال :

السوسيولوجيا القروية بالمغرب ، مقاربات و قضايا . د . امحمد مهدان ، نسخة 2017 .

أحمد ويحمان: إضاءة على النظرية الانقسامية، مجلة وجهة نظر، عدد 29، 2009.

 عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق (ترجمة): الأنتروبولوجيا والتاريخ، دار توبقال، 2007.

بنسعيد العلوي (سعيد) 1994، "صورة المغرب في الاستشراق المعاصر"، مجلة الاجتهاد، العدد 25، السنة السادسة،

 بنسالم (ليليا) 1988، "التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب الكبير، حصيلة وتقييم"، موجود في: الأنثروبولوجيا و التاريخ، حالة المغرب العربي،  ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، الدار البيضاء، دار توبقال

غيلنر (إرنست): 1988، "السلطة السياسية و الوظيفة الدينية في البوادي المغربية"، موجود في : الأنثروبولوجيا و التاريخ

⧭سوسيولوجيا القبيلة بالمغرب العربي . د .محمد نجيب بوطالب . إعداد مركز دراسات الوحدة العربية . 2002

⧭ايت ورياغر ، قبيلة من الريف المغربي . دافيد هارت . ترجمه الى العربية  جمعية صوت الديمقراطيين المغاربة بهولندا ، عن طريق كل من الدكتور محمدأونيا، الأستاذ عبد المجيد عزوزي والأستاذ عبد الحميد الرايس . 2016

حمودي عبد الله : 1988، "الانقسامية و التراتب الاجتماعي و السلطة السياسية و القداسة، ملاحظات حول أطروحة غيلنر": موجود في ليليا بنسالم. 

كتابة و تحرير و تجميع :

⇦ابراهيم ماين 

عن الكاتب

ابراهيم ماين

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

يقظة الفكر