كثر الحديث عن مسألة تحديث الفكر والمجتمع المغربيين في أوساط الباحثين ، وتعددت المشاريع الفكرية التي تصب في هذا المجرى ، وتروم تحقيق التنمية الثقافية ومن ثم الإقتصادية والإجتماعية والسياسية على اعتبار الإرتباط البنيوي بين هذه المجالات ، ودفع التفكير في الازمة متعددة الأوجه بالباحثين المغاربة منذ النصف الثاني من القرن 20م الى التفكير مليا في سبل وإمكانات التحديث ، انطلاقا من قراءة واعية للتاريخ والإنخراط الجدي في مساءلة الواقع بكشف مكامن التأخر والإختلال وبناء تصورات نظرية لكيفيات تجاوز الأزمة والتخلف. هكذا ومنذ ستينيات القرن 20م أحدث بعض المفكرين طفرة نوعية في الفكر الفلسفي المغربي ، حيث أسهمت كتابات عبد الله العروي في تمهيد أرضية فكر نقدي يعادي التقليد ويحاصر مداخل التبعية ومفاهيمها ، وأفرزت أبحاث محمد عابد الجابري اتساع قضايا ومقالات الفكر الفلسفي بالمغرب , و في نفس الوقت فغياب الحوار المباشر بين العروي و الجابري لا يعني عدم وجوده ، و لعلنا و نحن نتابع بالتقديم و المناقشة مؤلفاتهما ، و منذ انخراطهما في عمليات البحث و الإنتاج و ابتداء بالذات ، مع مطلع الثمانينيات ، نشعر بوجود حوار بينهما ، حوار يحضر بغيابه و يغيب بحضوره ، و ذلك بحكم الأفق الناظم لأعمالهما .
الحداثة بالتراث و التراث بالحداثة : سؤال التقدم و التأخر
يبدأ الصدام بدعوة عبد الله العروي لقراءة جديدة للتاريخ المغربي بمنظور علمي جديد توازيها دعوة الجابري إلى توظيف التراث بشكل مغاير لأشكال التوظيف السابقة عليه، التي كانت إما منحازة كليا للتراث بطابعه الماضوي أو منحازة كليا للفكر الغربي، أو باحثة عن سبل السلامة في محاولة للتوفيق أو التلفيق بينهما. و يتجلى الفرق واضحا بين مشروع كل من الجابري والعروي، فإذا كان هذا الأخير يشرط الحداثة بمراجعة التراث نفسه وإعادة النظر فيه، أي بثورة ثقافية تتجاوز التأخر التاريخي، فإن الجابري يرى أن طريق الحداثة يبدأ بنقد التراث والبحث عما يؤهلنا منه لخوض غمار الحداثة، وذلك بنقد العقل، إذ من داخل التراث نفسه يمكن بناء الحداثة والعقلانية. وفي الوقت الذي يعلن العروي أن لا خلاص من التأخر التاريخي إلا بالقطيعة مع الماضي والانخراط الواعي في تأسيس الحداثة، لا يرى الجابري ذلك، فاللحظات اللامعة والنيرة في التراث العربي الإسلامي ما تزال قابلة للتوظيف الأديولوجي الإيجابي. و يعرف المتابعون للفكر المغربي المعاصر، المسافة القائمة بين مشروع "نقد العقل العربي" ومشروع عبد الله العروي "في الدفاع عن الحداثة والتاريخ". كما يعرفون أن ما ركَّبه أحدهما من أعمال يختلف عن مجمل ما ركَّبه الآخر. نتأكد من ذلك من من مواقفهما المباشرة، وغير المباشرة، وأعمالهما معاً. لكننا نعرف أيضاً أنهما يلتقيان في الأفق الجامع لتصورهما كليهما في موضوع النهوض العربي. إننا نعتقد أنّ اختلاف نظرة كلّ منهما في الجواب على سؤال النهضة وكيفية تجاوُز التأخر، بل واختلافاتهما في كيفيات التعبير عن إشكالات الفكر ومفاهيمه، تعتبر مسألة طبيعية، إضافة إلى كونها مشروطة بمعطيات تتجاوز الأفراد الذين يجسدونهم في نصوصهم ومنتوجاتهم الخطابية. هذا هو معيار الاختلاف الفعلي في نظرنا، وهو معيار يصبح فيه الفرد المشخّص حالة قابلة للفهم الموضوعي، بحكم تعدد الخيارات أمام الفاعلين في قضايا التاريخ المعقدة.
توفيقية تاريخية ولا تاريخانية نخبوية
في " مفهوم العقل " لعبد الله العروي يرد اسم الجابري في سياق لا تذكر فيه الأسماء ، بل تذكر المواقف و الاختيارات ، وذلك أثناء نقده لنزعات الفكر التوفيقية الانتقائية التي تواصل انتعاشها و انتشارها و تحليقها في سماء الفكر العربي المعاصر ، إنه يرِدُ ضمن تيار كبير دشنه الشيخ محمد عبده، وقدَّم في إطاره المواقف الأكثر تفتحاً وانفتاحاً على العصر، وهذا الأمر يعني في نظر العروي، أنه آن الأوان للقطع كليّة مع لغة المخاتلة في مواجهة الماضي، وفي التفكير في وصل الحاضر والمستقبل بالماضي. فلا خلاص من التأخر في نظر العروي إلا بإعلان القطيعة مع الماضي ومنتوجاته الرمزية. و بالتالي لم يتجاوز الجابري، في تصور العروي وبناء على معطيات نص "مفهوم العقل"، اختيار الشيخ محمد عبده، وهو المؤسس لأول حركة توفيقية متفتحة على مكاسب العصر، وساعية لتمثّل هذه المكاسب بدمجها في الذات، الحريصة على هويتها حرصها على التجاوب الإيجابي مع رياح التغيير العاتية.
في سياق آخر، لا يرد فيه اسم العروي رسماً (رغم وروده كخيار في النظر) يتحدث الجابري في خاتمة "بنية العقل العربي" عام 1986 (الجزء الثاني من "نقد العقل العربي") عن سهولة المواقف الجذرية في التاريخ، مستخدماً لغة الاستعارة، وذلك في قول يخاطب فيه أصحاب الاتجاهات الراديكالية في مسألة الموقف من التراث ومن الماضي، أي الموقف من دعاة القطيعة في التاريخ، حيث يقول: "ما أسهل الهروب إلى الأمام"، أي ما أسهل اتخاذ المواقف التي تتجنب رؤية الواقع كما هو، فتهرب إلى الأمام، وتتخلى عن التاريخ تحت اسم مساعي ومبادرات تأسيس التاريخ الجديد. التاريخ الذي يقطع مع الموروث في كليّته، ليتبنى مكاسب الآخرين في الثقافة وفي التاريخ نفسه. و هنا نقول إذا كانت صورة الجابري في مشروع العروي "تكرارية توفيقية"، وصورة العروي في كتابات الجابري "لا تاريخية نخبوية"، وهو ما نتصوره ونحن نتأمل اليوم أعمال كلّ منهما وهي تعكس جوانب من صورة الآخر، ونتأمل في الآن نفسه ثنائية الصورة في مشهدنا السياسي؛ ألا يمكن حينها أن نجد في الواقع التاريخي الإطار القادر على احتضان الصورتين معاً؟
التباين المنهجي :
يعود الحوار الفكري بين الجابري و العروي إلى اختلاف مقاربة كل منهما للتاريخ الإسلامي تحديدا. فمن جهة يعتمد العروي على التاريخانية كمنهج لقراءة التاريخ ويستند في ذلك على علم الأركيولوجيا الدي يلغي التدخل الإنساني في عملية التأريخ وما تسببه من تناقضات وتعدد الروايات للحادثة الواحدة، في حين أن الجابري اعتمد في معظم مؤلفاته على التاريخ بالمفهوم الكلاسيكي أي قراءته من خلال الكتب التراثية بما تتضمنه من تناقض واختلاف على أمل الخروج بخلاصات توحد الآراء حول المسألة الواحدة.
رهانات :
نطرح سؤال الحداثة و التراث في هذا المقال لأننا نعتقد بأن تحولات الأفكار في التاريخ تخضع لعوامل عديدة، من بينها أشكال المثاقفة التي يصعب إدراك مختلف أوجهها بوضوح ودقة، كما يصعب نفيها، وضمن هذا الإطار، فكّرنا ونفكّر في نمط التفاعلات التي ما فتئت تنسجها نصوص الجابري في نقد العقل العربي مع أسئلة ومعضلات التحول في مجتمعنا وثقافتنا وخياراتنا السياسية. كما أننا نفتخر بمفكرين أفنوا حياتهم من أجل المساهمة في إعادة تشكيل العقل العربي، غير أن وللأسف اصطدمت مشاريعهم النهضوية بتيارات أخرى جارفة تكرس واقعنا الثقافي المر القائم على العرفان والتواكل والإقطاع والجمود و الاجترار . وبهذا يبقى السؤال مطروحا إلى متى سياسة تغييب أفكار عظمائنا؟
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .