يقظة الفكر يقظة الفكر
");

آخر الأخبار

");
random
جاري التحميل ...

إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .

إشكالية طبيعة العلاقة (انفصال أم اتصال) و الأسبقية بين الفكر و اللغة :


 غالبا قد تكون طرحت سؤال : من الأسبق البيضة أم الدجاجة؟ أسئلة الأسبقية هذه ، مكدسة في خزانة الفلسفة ، كل فيلسوف يضع ملفه و ينصرف ، المسألة بالغة التدقيق و التعقيد ، إنه شبيه بسؤال فلسفي اخر هو من الأسبق الفكر أم اللغة؟

إن ما يميز الانسان عن باقي الكائنات هو ملكة العقل و التفكير ، إنه كائن فكر في كل شيء لدرجة الإرهاق العقلي ، و بما أنه كذلك كائن مدني كما سماه أريسطو فإنه لا يتكتم عما يفكر فيه ، بل يشاركه في نسق علائقي و تفاعلي مع الآخر ،و بالتالي فهو ينقل الأفكار من وجودها الذاتي الفردي إلى وجوده الاجتماعي الموضوعي وهنا تظهر اللغة كأداة للتواصل وتبادل الأفكار بين الناس وهنا تتشكل لنا علاقة وثيقة بين الفكر واللغة، اختلف حول طبيعتها الفلاسفة وعلماء اللغة حيث اعتقد البعض أن الفكر له وجود منفصل عن اللغة بما أنه أوسع و أسبق منها بينما رأى البعض الآخر أنه من المحال الفصل بين اللغة والفكر لأن كل تفكير هو تفكير بالكلمات فيا ترى هل اللغة والفكر متصلان أم منفصلان؟

🔵الاتجاه الثنائي : علاقة انفصال و أسبقية الفكر :

يذهب هذا الاتجاه الى وجود هوة عميقة بين الفكر و اللغة ، حيث أن الإنسان يفكر بعقله قبل أن يعبر بلسانه فكثيرا ما يشعر بسيل من الخواطر والأفكار تتزاحم في نفسه ،لكنه يعجز عن التعبير عنها ومنه فاللغة عاجزة عن إبراز كل المعاني المتولدة عن الفكر إبرازا كاملا .
فالموضوع المفكر به صمتا مثلا هو غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكيرو ليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير الصوري لغويا. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة . ، فالإنسان حسب الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون لا يمكنه التوقف عن التفكير لأنه يتميز بالديمومة والاستمرارية بينما اللغة تميزها صفة الانفصال التي تجعلنا نستطيع التوقف عن استعمالها يقول :اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر ، فالفكرة تكون في لحظة ما موجودة في الذهن بدون لغة تجسدها ومن هنا يظهر بوضوح أن الفكرة سابقة في الوجود عن اللغة وهو ما يعني أيضا إمكانية التفكير بدون لغة فسلوك بعض الصم البكم ينم عن تفكير سيلم فنجد بعضهم يهتمون بشؤون السياسة ويدلون بآرائه فيها بواسطة إشارات يتواضعون –يتفقون عليها- مع من يناقشهم وهو ما يتبين معه أن الإنسان بإمكانه أن يستعمل إشارات أخرى غير اللغة للتعبير عن أفكاره . فالفكرة تربط بالشعور وهي تحمل كل مضامينه ومعانيه العميقة من انفعالات وعواطف كالحزن والسعادة والحب وعندما يريد المرء التعبير عنها وإبلاغها للآخرين يخرجها بشكل عبارات لغوية رمزية خالية من الشعور والحياة وهو ما يجعل اللغة عاجزة عن تبليغ أفكارنا ومن هنا استعان الإنسان بوسائل أخرى كالشعر والفن والموسيقى وغيرها من أشكال الفن من اجل التعبير عن مشاعره وأحاسيسه .لأن الألفاظ هي قبور المعاني،و يعتبر الفيلسوف الفرنسي الاخر بول فاليري أن بعض الأفكار التي يخمن عنها الشخض عادة ما لا يستطيع التعبير عنها ، فقد تلاحظ أن صديقك دلسه الحزن فتسأله عن حاله و شعوره فيجيبك أنه عاجز عن التعبير عما يكتنفه ، و هكذا فأجمل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها. و في السياق ذاته يقول الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو : أعتقد أننا نملك أفكارا أكثر مما نملك أصواتا ، يعني أن التوقف عن الكلام و التزام الصمت هو في ذاته ضجيج من الكلمات داخل مفكرة الانسان . يقول الفيلسوف الفرنسي جورج جوسدورف : إن التفكير ضاج بالكلمات .إذن فو اللغة ما هي إلا وسيلة يقودها الفكر ، كما يعتبر جون لوك أن الفكر عبارة عن قاموس حياة فرد لما يحمله من ذكريات و عواطف ، على عكس تشومسكي كما سنرى في السطور القادمة
أما بخصوص الفيلسوف الألماني العظيم شوبنهاور فيرى أن وضع الأفكار في قولب لغوية جاهزة يفقدها حيويتها و أصالتها ، و يقول : "إن الأفكار تموت لحظة تجسيدها في الكلمات"،و بالتالي فالكلمات تعيق تطور الأفكار وتشوهها لذا قيل: "الألفاظ قبور المعاني"، ويقول لامارتين في هذا الصدد: " إذا كانت كلماتي من ثلج فكيف تهوى في داخلها النيران".

🔴الاتجاه الأحادي : علاقة اتصال و أسبقية اللغة :

إن الحديث عن اللغة هو بمثابة الحديث عن ذلك الكائن الذي يتطور في ذات الإنسان الذي تتولد لديه إمكانية التواصل و التماهي مع الآخر و هو ما يشكل فلسفة الممارسة اللغوية قصد إنتاج المعنى في الكلام ، فاللغة سبيل للتعبير عن كوامن الفكر و سيرورة المعاني ، و تمت صياغة مشروع فلسفة اللغة في المذاهب الفلسفية الحديثة كالعقلانية(ديكارت) و التجريبية(لوك)و الظواهرية(هوسلر)و الوجودية(سارتر) و البراغماتية(ميل) .لتتطور البنى اللغوية في مدارس الفكر اللساني الحديث مع بعث فلسفة دوسوسير و بيرس و تشومسكي و كريستيفا و الكبير رولان بارت ، و من هنا انتفضت اللغة كحقل معرفي شاسع نهضت فيه السيمولوجيا . و سأتوقف قليلا عند تشومسكي و كريستيفا .
يعرف الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي و حذقه الواسع في مجالات عديدة ، إذ تصنف نظريته اللغوية في حقول معرفية كثيرة كعلم النفس و السيميولوجيا... و وفقا لتشومسكي تعد اللغة سمة مميزة لكل البشر حتى قبل ولادتهم (على خلاف سكنر) ، و يقر أن جميع لغات العالم تتشارك في نفس القواعد ، ولا يعني أن اختلاف اللغة هو بالضرورة يحدث اختلافا في التفكير ، و يؤكد كذلك أن الذماغ البشري مبرمج بيولوجيا لتعلم اللغة ، و بالتالي فهي فطرية في الانسان (عكس جون لوك) و سابقة للفكر . و قد دافع تشومسكي عن آراءه و انخرط في مناقشات مع شخصيات رئيسية في الفلسفة التحليلية و النقدية كميشل فوكو و جاك دريدا و كريستيفا.
هذه الفيلسوفة النابغة الفرنسية ترى أن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة اتصال ، و اللغة منور إليها من الخارج تكتسي طابعا ماديا ، فتتمظهر في سلسلة أصوات منطوقة أو شبكة من العلامات المكتوبة أو لعبة من الإيماءات ، فاللغة هي الطريقة الوحيدة في كليتها التي يمكن أن يوجد بها الفكر بل هي حقيقة وجوده و خروجه الى الوجود، تقول : اللغة هي جسم الفكر .فاللغة حسب جوليا هي التي تبرز الفكر وتوضحه وتكشف معانيه وتطوره، بمعنى أنه لا وجود لفكر بدون لغة، فاللغة هي التي تحققه وتخرجه من حيز الكتمان إلى حيز التصريح، فلولاها لبقي الفكر حبيس صاحبه، لا يمكن كشفه والتعرف على حقيقته، كما أنها هي التي تمنح الفكر صبغة اجتماعية موضوعية، وهكذا فالفكر بدون لغة يبقى حوارا صامتا، أي مجرد مونولوج داخلي بين الذات ونفسها، وهذا ما قصده أفلاطون قديما قائلا: "الفكر لغة صامتة"، فالتفكير هو حوار بين الإنسان وذاته، والحوار جوهره اللغة. و هذا ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي حيث يصرح أن الفكر لا يوجد خارج العالم و بمعزل عن الكلمات ، و الأفكار التي عبرنا عنها من قبل هي التي نستدعيها ، و اللغة ليست علامة للتفكير مثلما أن الدخان علامة النار بل أنهما متداخلان يضم أحدهما الآخر.
و في نفسه المسار يسير الفيلسوف الإنجليزي هاملتون حيث شبه المعاني بشرارة النار لا تومض إلا لتغيب و لا يمكن إهارها و تثبيتها إلا بالألفاظ ، فاللغة هي الوعاء الذي تصب فيه الأفكار ، يقول الألفاظ حصون المعاني .
و هذا ما يؤكده الألماني فريديك هيجل الذي يرى أن الإنسان يفكر داخل اللغة لا خارجها ، فالفكرة لا تكتسب وجودها الفعلي إلا عندما تصاغ صياغة لغوية ، يقول : اللغة تعطي الفكر وجوده الأسمى .
و الى هنا نؤكد على فكرة أن اللغة والفكر متصلان متداخلان ومرتبطان لا يمكن الفصل بينهما، وبالتالي فالاعتقاد بوجود نشاط فكري بدون لغة هو ضرب من الخيال، لأننا عندما نفكر يعني أننا نتحدث بصوت خافت، وعندما نتحدث فإننا نفكر بصوت عالي، هذا ما دفع ريفارول إلى القول بأن "الكلام هو التفكير خارجيا والتفكير هو اللغة داخليا"، فمجال اللغة ومجال الفكر متطابقان ومتساويان .
و إذا كانت اللغة لا تغطي حقا إلا القليل من مضمون الفكر فلا ينبغي رفضها لأن الفكر بأوسع معانيه بحاجة إليها فهي بالنسبة له أداة توضيح و بيان ، فالعجر الذي يصيب اللغة لا يوحي برفضها كوسيلة للتواصل ، ان التخلي عنها يعني إنكار الفكر و منه نستنتج أن كلا منهما مكمل للآخر فلا يمكن إنكار دور الفكر الذي يميز الإنسان عن الحيوان ولا يمكن إنكار اللغة التي تحفظ الفكر من الضياع فلولاها لما عرفنا شيئا عن تاريخنا و لما كتب الانسان . و على حد تعبير ماكس مولر أختم بأن الفكر و اللغة وجهان لعملة واحدة .

عن الكاتب

ابراهيم ماين

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

يقظة الفكر