يتشكل البناء الداخلي للإنسان من عنصرين أساسيين هما العقل و القلب ، يتحكمان في سلوكه و تصرفاته الجيدة منها و السيئة ، و كثيرا ما يجد الإنسان نفسه مترنحا بين سلطة العقل و سلطة القلب ، فيحتار في الإختيار بين هذا و ذاك ، خصوصا إذا كان الإختيار ، يحدد مصيرية القرار ، فقد يقودك أحدهم الى تحقيق النجاح و الإنتصار ، و يسوقك الآخر الى تكبد مرارة الفشل و الإنكسار ، و في ظل هذا الإنحسار ، يتولد داخلك الإعصار ، يقودك غالبا الى حافة الإنهيار . فهل العقل أداة الابتكار و القلب وسيلة الاغترار؟ أم العكس صحيح ؟. هذه جدلية العقل و القلب ، الصراع الذي تعيشه يوميا . فأي منهما الأرجح ؟ و كيف يمكن أن نوازن بينهما ؟
فلسفة العقل
لقد قدس معظم الفلاسفة العقل كركيزة لا مندوحة عن الإجلال بها ، فهي العين التي يدرك بها الإنسان العالم حوله ، و شتانا بين الإدراك و الرؤية ،و يذهب أصحاب المذهب العقلي الى أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الحقة التى تتسم بطابع الضرورة والكلية ،بمعنى أنه قوة فطرية فى الناس جميعا، فالإنسان فى رأى العقلانيين لا يتلقى العلم من الخارج، بل من داخل عقله هو. و هنا يستوجب علينا استحضار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أب العقلانية ، الذي نزه العقل عن الماديات و الحواس و العواطف و رفعه الى مرتبة عظيمة جدا أفضت به الى إنتاج أحد أعظم الفلسفات ، فلسفة الشك و التفكير ، فقد كان ديكارت يشك في كل شيء إلا في شيء واحد هو أنه يشك ، شك في مصداقية الحواس و أكد أنها خادعة ، و في موثوقية العواطف و اعتبرها مظللة(القلب لاشيء في حضور العقل) ، و في إطلاقية الحس المشترك . و أقر أن التفكير هو أساس الوجود ، و التفكير عملية عقلية ،كما صمم عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل على طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية. وهي العناصر التي يعرضها لنا في مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وإجمالا. و تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية، يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها. فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين. فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخطأ، وإما أن نصل إلى اليقين . و منه فالعقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس. فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة، تختلف من شخص إلى آخر. و بالتالي اختلافا في الحقائق ، فحقيقته ليست حقيقتي ، و ما تراه أنت ليس ما هو أنا عليه . من لا يفكر لا وجود له .
من فرنسا الى انجلترا لنزور لأول مرة الفيلسوف جورج براكلي لنسأله عن العقل ، فيقرر أن ليس هناك فارق بين وجود الأفكار ووجود الأشياء لأن الفكرة هي الشيء المحسوس وحقيقة الفكرة ووجودها لا يقوم بمعزل عن الإدراك لهذا فإن العقل هو سند الأفكار وليس المادة هذا فضلا عن أن الأفكار ترد إلى فاعلية العقل والمادة ساكنة ومن ثم يستحيل أن تكون المادة هي مصدر أفكارنا بل إن مصدر أفكارنا هو العقل الإلهي الذي يتسم وحده بالفاعلية. ذلك أن الكون في مجموعه هو بمثابة أفكار لا توجد بمعزل عن العقل الإلهي فهو مبدعا لأن الله وحده يتسم بالفاعلية أما العقول المتناهية فهي متقبلة لإبداعات العقل الإلهي، ومن ثم فإن دوام وجود الكون وثباته ونظامه يرد إلى الإدراك الإلهي، ولا وجود لشيء بمعزل عن إدراكه وإرادته. و بالتالي فإذا كان العقل سمة إلهية لامادية و لا متناهية ، فحسب براكلي يجب أن نبتعد عن العاطفة القلبية و نحتضن العقل .
و في نفس الاتجاه و مع الفيلسوف العربي الذي كتب عنه براكلي نفسه هو الفارابي ، فقد كان الأخير من اهم المناصرين للعقل شانه شأن معظم فلاسفة وعلماء المسلمين كالكندي ، فلقد اعتبر العقل تلك الغريزة التى وضعها الله سبحانه في عبده، ليميزه عن باقي مخلوقاته في عملية الكشف عن الحقائق أينما وجدت. لذا فإن ما يميزك عن الحيوان هو العقل ، فإذا كنت تميل الى المشاعر و العاطفة و الحب فأنت في تطابق مع الحيوان و لا فرق بينك و بينه . يقول الفارابي : العقل هو الاله الذي يستطيع من خلاله الانسان ان يتفكر ويتأمل في البحث عن المعرفة التي ومن خلالها يستطيع الكشف عن ماهية الاشياء و الكشف ايضا عن خفايا الطبيعة التى تحيط به من ظواهر قد يجدها غريبة في بعض الأحيان وقد لا يجدها كذلك أحيانا كثيرة.
و بالتالي فالعقل هو ملكة الرفض والقبول عند الإنسان وهو ملكة التمييز و ملكة الاختيار وملكة الترجيح.وهو الإنسان الحر المختار الذي كلفه الله سبحانه وتعالى .لذلك يعتبرالعقل عند هؤلاء الفلاسفه المحرك الحقيقي لقدراتهم على تحويل العالم الى عالم مثالي ينفرد بالأخلاق ويحكم هذا الكون بالعدل والحق.
و ذهب كذلك الطبيب اليوناني أبيقراط أن العقل مصدر للذكاء والأحاسيس أيضا .
فلسفة القلب
عادة ما نستخدم تعبيرات مثل «قلبه طيب»، للتعبير عن أفكارنا الإيجابية تجاه شخص ما، ونقول عن شخص إنه «عديم القلب» إذا أظهر قدرا من القسوة والعنف في تعامله مع الآخرين، ونقول عن فلان: «عنده قلب»، ما يعني أننا نصفه بالشجاعة والإقدام. مصدر هذه الانطباعات هو القلب ، فوظيفة الأخير لا تقتصر على ضخ الدم في الجسم ، و نقله الى الرئتين في عملية الدورة الدموية الكبرى، فهو الأساس الذي تقوم عليه الحياة أصلا . و قد كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي بليز باسكال، في دفاتر ملاحظاته، أن القلب يملك منطقه الخاص الذي لا يعرف المنطق الطبيعي (أي العقل) أي شيء عنه. من هنا استنتج أننا في سعينا لفهم الحقيقة، علينا أن نشرك القلب في البحث والاستنتاج، لا العقل فقط. .و يستمر باسكال في الإسهاب على ضرورة القلب في حياة الإنسان حيث أقر أن حقيقة الإيمان يدركها الإنسان عبر القلب، لأنها حقائق يدركها منطق وبرهان القلب، وللقلب براهين لا يدركها العقل بل يتعالى عليها شعور الإرتياح او اللذة لا يدركها العقل و إنما القلب ، فلقلب هو الذي يشعر بالله لا العقل. وهذا هو الإيمان: الله حساس أكثر نحو القلب، لا نحو العقل (عكس ديكارت)، إدراك العقل هو شعور للقلب لذا نجد التناغم بين روح الإبداع و روح الرياضيات. فروح الإبداع هو روح جمالي حساس و نجد في هذا الإطار خبرة الحب، خبرة الإيمان، خبرة الصداقة، خبرة الذوق الجمالي والفني . فبراهين القلب هي تجاوب قصدي مع القيم، وهي مرحلة من مراحل الاعتراف بالقيم التي تذهب أبعد من العقل النفعي والمخبري. العقل يستطيع فقط أن يتعرف على القيم، وحده القلب يتوصل إلى الاعتراف بها، بما في ذلك قيمة الآخر المتسامي كالصديق، والدخول في إطار العشق الإلهي الذي هو إطار معرفة يتوصل إليه المرء من خلال تمييز القيم في الحب(عكس براكلي) ،إن معرفة الله، إضافة إلى كونها خبرة حب هي أيضا هبة مجانية من الله. وحده الله يسمح للإنسان أن يتعرف عليه. ولذا يعتبر باسكال أن الإنسان يبدأ بالتفتيش عن الله فقد عندما يكون الله قد وجده إذا جاز التعبير!(عكس الفارابي). إذن فالقلب هو الأساس .
و أما مواطنه الفيلسوف هنري برغسون الذي درس الشعور أو القلب من زاوية الكيف لا الكم كما فعل باسكال ، فأحوال القلب و الشعور عند برغسون تتسم بالديمومة و التغير(المزاجية)، يقول:"اتصال الغير موجود وهو الماضي، بالموجود وهو الحاضر" هذه الأخيرة على حد تعبيره هي متجذرة في ذاتنا، ما دمنا نحن من نمتلك الشعور، فنحن المدركون والمستشعرون لها ومادام وعينا في حالة جريان دائم، فإن الحال نفسه بالنسبة لحالاتنا النفسية فهي مترابطة وفي حالة تفاعل مستمر مع بعضها، وعلى هذا الأساس فإن الديمومة هي زمان متصل غير قابل للانقسام وأبعاده التي هي (الماضي، الحاضر، المستقبل)، ليست لحظات أو أجزاء منفصلة بل هي كل متكامل يتدفق كل منها في الآخر، وبالتالي فالزمن السيكولوجي "هو تجربة معاشة أساسها الشعور والحدس، على اعتبار أن الحياة النفسية تتسم بجملة من التغيرات والذات التي لا تتغير حالاتها، لا تكتسب صفة الديمومة". إذن فالحياة النفسية هي وحدها التي تشهد التتابع (الانفعالات، الرغبات) هذا التتابع الذي يكون دوما في مجرى متدفق ومستمر لا يعرف النهاية. وبهذا يمكن القول "أن الديمومة هي الشعور الملازم للذات الإنسانية" هذا الشعور الذي يتعذر على العقل الإنساني ترجمته، بمعنى أنه من المستحيل تقدير النسبة في الحالات النفسية (الحزن، الفرح)، فهي كيفيات ليس لها صلة بالعدد أو الكم، بل هي الحياة عينها في طور تقدمها من البداية إلى النهاية، وسيلة إدراكها الحدس وليس العقل، و لعل برغسون استقى أفكاره من الفيلسوف هيراقليطس حول مبدأ الدينامية و التغير ، فالتابث الوحيد في هذا العالم هو التغير المستمر ، كما أن أفكاره تتقارب مع أفكار جون لوك حول الإحساس الممتد عبر الزمن .
و بالنسبة للفيلسوف و الطبيب العربي الآخر ابن سينا الذي و حسب تحليلاته الطبية يضع معيار التمييز حين يقول لا خطأ في الإحساس النابع من القلب وإنما الخطأ يكمن فى حكمنا عليه. ثم نشير إلى بعض أخطاء الحواس كظاهرة الهلوسة مثل رؤية الأشباح الكاذبة أو الأحكام التى تصدر عن المرضى ونحو ذلك كما نلاحظ وجه شبه بين ابن سينا وجون لوك فى تمييزهما معا بين إدراك الأشياء من الخارج، و إدراكها من الباطن، ويسميه لوك الحس الباطن لكن بينما قصد بالحس الباطن قدرتنا على الاستبطان، أو إدراك حالتنا الداخلية، فقد جعل ابن سينا الحواس الباطنة عناصر أساسية لتكوين الإدراك الحسى ذاته. فالعمليات الشعورية التي ترتبط بدقات القلب المختلفة تكون صادقة في أغلب الأحيان . و يجب أن أندد هنا أن ابن سينا مجهول التوجه فقد نجده أيضا في المسار العقلي .
و يقول رسول الله محمد (مضغة إِذا صلحت صلح الجسد كله، وإِذا فسدتْ فسد الجسد كله}، وبهذا يعلم دور القلب الرهيب في تحريك بقية أعضاء الجسم الذي يمثلون الجنود له وينصاعون لأوامره ونواهيهو منها العقل .
في الحقيقة القلب يتولى مهمة ضخ الدم في الجسم و الذماغ يتكلف بعملية تبريده .
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .