بداية :
لا مناص لمن يريد الخوض في نبش أحوال و خصوصيات القبائل المغربية من أن ينفتح على غمار السوسيولوجيا التي وجهت عنايتها للنظام القبلي و استهوتها المكانة المحورية التي تحضى بها القبيلة و تدور حولها جميع الحركات السياسية و التقلبات الاقتصادية و التطورات الفكرية و الاجتماعية ، و من هنا تهاطلت على القبيلة المغربية دراسات سوسيولوجية كونت صرحا و رصيدا معرفيا ثمينا ناتجا عن الفراغ السوسيولوجي الذي طبع المنطقة المغربية و المغاربية خلال أكثر من قرن من الزمن ، و جاءت هذه الدراسات بمعية من فرنسا سعيا منها الى جمع رصيد من المعلومات حول القبائل المغربية التي لطالما استماتت ضد أي تهديد أجنبي و وقفت ندا للتغلغلات الأجنبية ، و ذلك من أجل بسط السيطرة عليها و التحكم فيها و استمالتها قصد تطويعها لتكون تابعة للسلطة الاستعمارية ، عبر تعيين و تكليف ثلة من الضباط المتمرسين من أمثال جورج سبيلمان و المراقبين من أمثال أوجيست موليراس و شارل دو فوكو و هنري باسي و الباحثين المتخصصين في حقلي السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا من طينة ادموند دوتي و ميشو بلير و روبير مونطاني ، فكانت المهمة المنوطة لهؤلاء التنقيب عن مواطن اللين و الصلابة لدى هذه القبائل ، و حشد المعطيات العلمية و العملية الميدانية حول الجتمع المزمع استعماره ، باستعمال العلم كأداة ذات أهداف مصلحية لا تراعي إلا مخرجات من يمتلكها ، و تنطبق فيها مقولة أوجست كونت : "المعرفة من أجل التحكم ، و التحكم من أجل التنبؤ " .
توزعت سلسلة الدراسات السوسيولوجية على تاريخ المغرب لما قبل الحماية ، و في غضون الحماية ، و ما بعد الحماية . و كانت جل الكتابات الإجتماعية حول المغرب القبلي في المرحلة الاستعمارية الكولونيالية متأثلرة بالسوسيولوجيا الفرنسية و التي كانت بدورها تهيمن على تحليلات الدارسين بمختلف مشاربهم و نشاطاتهم و وظائفهم .
تنطوي هذه الكتابات و الأعمال السوسيولوجية على فكرة إتباث الركود الاجتماعي و الإنقسام السياسي ، و هذا ما أكدته أطروحات روبير مونطاني ، و كانت سياقات البحث مرتبطة بمهام و وظائف أيديولوجية و سياسية ، و تجاه هذا الموقف يصبح من الضروري أن يتصدى البحث الإجتماعي بمختلف فروعه الى إعادة قراءة الخطاب السوسيولوجي الكولونيالي ، عبر النفاذ الى بناه الداخلية من حيث مفاهيمه و أطره المعرفية و أنساقه النظرية ، كما أن الوعي بالمنزلق الأيديولوجي للسوسيولوجيا الكولونيالية لا يعني سقوطها في موقع الضحالة ، و لا يشفع ذلك في ترجيح رأي قد يعدو الى مناورة أو مقاطعة هذا الموروث العلمي تحت ذريعة وطنية أو هوياتية ضيقة تعادي كل ما أنتج في فترة الإستعمار . فسنكون وفق هذا الإطار الأيديولوجي القامع لسياسة تبني الأفكار الأجنبية مطالبين بالتحلي بأكبر قدر من الراديكالية في الدفاع عن السوسيولوجيا الخالصة و الخام و التي لا تشوبعها شوائب الاستغلال العلمي و لا تتلون بألوان السرابية و التهويم ، عبر الإقتداء بالأبحاث الكولونيالية سواء على مستوى المنهج بأخذ تقنيات البحث و أساليب التفسير ، و على مستوى الموضوع بالعودة الى الإرث العلمي لكل من ادموند دوتي و ميشو بلير و روبير مونطاني بغية استنهاض القضايا المتعلقة بالمجتمع القروي و القبلي في المغرب و مطابقتها بالعصر الراهن ، و رسم صورة عامة حول التنظيم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و الديني للعديد من المناطق المغربية ، لما يجود به ذلك من معرفة التاريخ الحقيقي للوطن في منأى عن القوالب الجاهزة و المغالطات المعرفية ، و سأركز في هذه المقالة على جرد مجمل دراسات و أبحاث السوسيولوجيين الكولونياليين ، خصوصا ميشو بلير و روبير مونطاني .
ميشو بلير :
عرقلت مجموعة الصعوبات سيرورة أبحاث ميشو بلير و اعترضت طريق السوسيولوجية الكولونيالية في دراسة المجتمع المغربي دراسة علمية . هذه الصعوبات ، غالبا ما تكون مستقرة على مستوى جمع الوقائع " لجهل حقيقي ، كما يقول " ميشو بللير " , عندي بأغلب الناس الذين كنت أستجوبهم , لسوء النية لدى أولئك الذين كان بإمكانهم تزويدي بالمعلومات " ، بيد أن هذا لا يقبر الإنجازات التي تكللت باستيفاء المهام التي أنيطت له من قبل السلطة الاستعمارية في إطار "البعثة العلمية" و يشخص هذه المرحلة ويمثلها من موقع توجيه وتطبيق ما تم التخطيط له أنداك من مشاريع الهيمنة وبسط النفوذ، وبسبب ذلك فإن تصوراته النظرية لم تكن فقط نتاجا لمجهود معرفي توخى الرصد العلمي لواقع المجتمع المغربي، بقدر ما كانت أيضا أساسا نتاجا لما تبناه من أفكار مسبقة، ولما انطلق من بواعث ونزعات سياسية ، حادت به الى إفلات الواقع الفعلي للمجتمع المغربي و التخبط في القوالب الجاهزة ، أدى به ذلك الى التدحرج في منزلقات الذاتية بتأتيت المجتمع المدروس بثنائيات تأطيرية فتتت وحدة المجتمع المتكاملة كما يعتبرها دوركايم و شطر المغرب الى عدة تقسيمات : بلاد المخزن / وبلاد السيبة، العرب/ والبربر، السهل/ والجبل، المدينة/ والبادية، الشرع/ والعرف، الاستبداد/ والديمقراطية ، و ذلك لتبيان مدى التشرذم الحاصل في المغرب و الذي تدخلا مستعجلا للتهدئة و فرض النظام و الانضباط لمقتضيات سلطة المخزن داخل قبائل " الكيش" كما تسمى ، و إحالة على التمييز بين مغرب ديبلوماسي رسمي يمسك فيه السلطان بزمام الشؤون الدينية و الدنيوية ، و مغرب قبلي قروي يواجه عبر القوى المحلية التهديدات الخارجية و يقف ندا أمام السلطة المخزنية المستبدة ، هذه الأخيرة تسعى الى دس السموم في قلب الجماعة القبلية و زرع الاختلالات الاجتماعية من أجل ضمان الاستمرار في لعب دور التحكيم .و يشكل النظام القبلي الطرف المناقض لهذه الدولة ( بلاد السيبة ) فهو لا يعترف بالسلطان إلى رمزيا و شكليا . و منه يختزل بلير تكون الدولة في المجتمع المغربي في بنية متعارضة مع النظام القبلي . و هذا الموقف تم وضع اسسه المفاهيمية انطلاقا من تصور مسبق ، يعتبر بمثابة تبرير تاريخي للهيمنة الاستعمارية على المغرب .
إن ميشو بلير لا يرى القبيلة تتحدد من خلال عامل القرابة (الأصل العائلي المشترك كما جاء مع الانقساميين) بل اعتبرها كوحدة تقوم على التملك الجماعي لنفس الحاجيات والمصالح والأهداف والوسائل واقتسام نفس الرموز الثقافية من أعراف وعادات ومعتقدات، إنه يحدد القبيلة بما هو مشترك بين الأفراد بما اعتادوا تملكه جماعيا ، و بالتالي فهي تجمع بين الأفراد و العائلات حول نواة أولية تتمحور حولها كل العناصر الأخرى بما في الأعراف و اللغة . و دعى بلير الى إيلاء الأهمية أكثر للقبائل الأمازيغية باعتبارها قبائل سلمت من رواسب التغيير و كونها متجذرة في التاريخ الغابر ما قبل الإسلام ، و الأهم أنها لازالت محافظة على عاداتها و رموزها و تقاليدها و أعرافها و قوانينها و نظامها الإجتماعي . و أبلغ ميشو بلير في وصف مظاهر العنف والصراعات القبلية دون تبيان وتفسير وظائفها على مستوى ضمان البقاء والاستمرار الاجتماعي ولا بعدها الدينامي كردود فعل أو كتنافس على امتلاك الأرض والموارد، و سيأتي بعده روبير مونطاني ليتصدى لهذه المسألة و أفاض فيها الإنقساميون بالتفسير خصوصا مع إرنست غيلنر و الحديث عن مبدأ التعارض و التحالف .
لم يتسنى لميشو بلير حسب الباحث المغربي المختار الهراس أن يبرز الأبعاد النسقية لمكونات الحياة القبلية ولم يحدد التفاعل والتلاحم داخلها، بل اكتفى فقط بإظهار مستوياتها على أنها منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض، ولا نجد لديه أية تلويح أو تلميح إلى كون عنصر معين يسطو على بقية العناصر الأخرى، وكأن كل عناصر الحياة القبلية متساوية من حيث قيمتها التفسيرية أو من حيث الوظائف المرتبطة بكل منها.
روبير مونطاني :
إذا كان ميشو بلير قد طرح مستويات الحياة القبلية و كأنها منفصلة و منعزلة عن بعضها البعض ، و أفاض في وصف مظاهر العنف و التصادمات الحادة بين المجموعات القبلية دون تحليل معمق ، فإن روبير مونطاني لم يتوقف عند رصد الوقائع القبيلية و وصفها ، بل سعى الى تشكيل نسق نظري حاول عن طريقه فهم طبيعة الآليات المعتمدة في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية . فالقبيلة عند مونطاني لا تتحدد بانتمائها الى جد مشترك فقط بقدر ما تتحدد أيضا في وحدة التسمية و مجال العيش وفق تقاليد و أعراف موحدة ،فتاقبيلت(وهو المفهوم المستعمل عادة في جنوب المغرب، سوس) تستمد كيانها و ماهيتها من وحدة الرقعة الجغرافية التي تسكنها وتدافع عنها ويدعي أهلها الانتساب المشترك ولو كان "وهميا". إن وحدة تاقبيلت تظهر من خلال نشاطها الفعلي في مجرى الحياة اليومية، ومن تم يكون لها دور حيوي وديناميكي وفعال، فهي وحدة سياسية واجتماعية ودفاعية واقتصادية إنتاجية. بما يسفر الى تمحور أطرافها حول سوق أسبوعية أو ضريح ولي أو بما يجمع بين فرقها من عداء للقبيلة المجاورة .
لقد بحث مونطاني عن مكامن القوة و الضعف في النظام القبلي رغم التزاماته السياسية فإنه استطاع أن يترك لنا أهم دراسة حول البناء القبلي في المغرب أنجزت في الفترة الاستعمارية ، من حيث كثافتها و عمق تحليلها على رغم ما تسرب إليها من سلبيات ، ابتداء من بدائية "الحضارة الأمازيغية" وجمودها التاريخي وبالتالي تأخرها عن مسايرة سيرورة التقدم التي عرفتها المجتمعات الأوربية ، ويذهب إلى أن اجماعة رغم ما يبدو عليها من طابع مساواتي، فإنها لم تكن مع ذلك تجسيدا للإرادة الجماعية ولا تعبيرا شاملا في كل مكونات الكيان القبلي، فإنها لم تكن تنجو من وراء ذلك من سيطرة الأقوياء والأغنياء بغية توجيه قرارها نحو الاستجابة لمصالحهم، كما أنها كانت مجال للنزاع والمنافسة حول من يظفر بحكمها. و استعرض في هذا السياق سيرورة تطور النظام السياسي القبلي بداية بنظام الجمهوريات القبلية مرورا بالنظام الأوريغارشي بحكم القائد و أمغار ، و صولا الى الهيمنة الشمولية للنظام المخزني .
عمد مونتاني أيضا في دراسته «نشأة البروليتاريا المغربية » إلى تحليل نتائج دراسة جماعية أُنجزت بإشرافه بين سنتي 1948 و 1950 وساهم في جمع معطياتها المراقبون المدنيون وضباط الشؤون الأهلية، وانصبت أساسًا على المهاجرين الوافدين من منطقة سوس )الجنوب الغربي للمغرب( إلى مدينة الدار البيضاء و وجدة و أكادير و الرباط . يلاحظ الكاتب في البداية «تضخم » المدن في المغرب، وارتفاع وتيرة التحضر بعد دخول الاستعمار وانفتاح البلد، خصوصًا مدنه، على الخارج؛ هذا الانفتاح الذي يقول مونتاني بصدده في مقدمة هذه الدراسة: «إن المغرب المنغلق بقوة على ذاته في الماضي يتنفس اليوم من حدوده. النشاط الاقتصادي والخيرات تأتيه من مدنه )...(. لقد كف المغرب عن تكديس سكانه النشيطين في الداخل) ، كانت لهذا الانفتاح المفروض على الخارج نتائج وتبعات، منها الارتفاع المستمر لنسبة التحضر الذي تميز بكونه لم يأت – كما أسلفنا - نتيجة الزيادة الطبيعية في عدد السكان وإنما نتيجة «البلترة » الكثيفة للجماهير القروية الوافدة إلى المدن، حيث رُكزت الخدمات والصناعات الجديدة التي كانت بحاجة إلى اليد العاملة، ومن ثم جاء تضخم ما يسميه مونتاني «البروليتاريا الحضرية » التي يقتضيها – بحسبه - الانخراط في مسلسل الحداثة: «هكذا، وفي غضون أربعين سنة، جاء حوالى مليون نسمة من القبائل ليندمجوا في حياة المغرب الحديث. إنهم هم من يشكل هذه البروليتاريا .
و أخيرا :
إن التفكير في السوسيولوجيا و تطور موضوعاتها يؤدي إلى اكتشاف هذه "النشأة غير الشرعية "التي تمت خلال الحقبة الاستعمارية. إن السوسيولوجيا بهذا المعنى كانت مرتبطة بتوظيف العلم لمصلحة الانتشار الاستعماري الذي لم يكن بإمكانه أن يستغني عن معرفة المستعمر. أن نعود إلى هذا، هو أن نعود إلى تطبيق إيديولوجي في صورته الأكثر اكتمالا. يشكل في الآن ذاته من طرف السوسيولوجيين الفرنسيين وضباط الشؤون الأهلية، ميراثا ضخما و ضروريا لمعرفة المجتمع المغربي لهذه المرحلة. إن تطبيق السوسيولوجيا يتولد من مشروع للمجتمع، يتعلق الأمر بمشروع كولونيالي حيث يسخر العلم من أجل توفير تأطير علمي. ومن غير المجدي التفكير في أطروحة روبير مونطاني حول "البربر والمخزن" التي تمثل الدرجة القصوى للنظرية الكولونيالية. ومع ذلك فإن إثبات الطابع الايديولوجي والاستعماري للسوسيولوجيا الكولونيالية يعتبر بمثابة تحصيل حاصل. وفي الحقيقة، مع ذلك، فإن هذا الأمر لا ينزع عنها البتة الاستحقاق بأن تكون معرفة إمبريقية، منظمة وتقوم على التنقيب. غير أن معالجة هذه المعرفة وموضوعاتها مشروع يتجاوز إطار هذا المقال. لكن لنشر، مع ذلك، بأن هناك سوسيولوجيا ناشئة بعد استقلال المغرب في 1956 شرعت في اتخاذ موقعها في ارتباط بهذا الإرث.
المراجع المعتمدة في المقال :
⧭ السوسيولوجيا القروية بالغرب ، قضايا و مقاربات . د.امحمد مهدان ، الطبعة الثانية 2017 .
⧭ سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي . د. محمد نجيب بوطالب ، الطبعة الأولى 2002 ، من مركز دراسات الوحدة العربية .
⧭ القبيلة و السلطة ، تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب . د . المختار الهراس ، من المركز الوطني لتنسيق و تخطيط البحث العلميو التقني ، الرباط .
⧭ القبيلة ، الإقطاع و المخزن ، مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث 1844 ، 1934 ، د. الهادي الهروي ، من إفريقيا الشرق .
⧭ مع مركز عمران للعلوم الإجتماعية و السياسية ، العدد 17 ، المجلد الخامس ، صيف 2018 ،سوسيولوجيا إنتاج المعرفة الكولونيالية - حالة المغرب
كتابة و تحرير و تجميع :
☚ ابراهيم ماين
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .