عرى شهر رمضان عن مكامن التوسخ في العقليات و مواطن التفسخ في المبادئ ، أبان جليا أن عقل الإنسان في بطنه ، فإذا اشتد عود الجوع اشتد معه عود العنف ، و تحصل الفوضى وكافة سلوكات العنف الناتجة عن غياب الحوار والتسامح والإيثار، إذ ينتقل الخلاف بين الصائمين إلى خلاف جماعي يتسم بالعنف والعنف المضاد، وهذا ما تشهده الحارات والأسواق والفضاءات الشعبية بشدة ، فيصبح العنف مبررا تحت يافطة الصوم ، لنكن أكثر دقة فالفلسفة وغيرها من العلوم اختزلت الإنسان في بعده الإنساني ، يعني أنه عقل يفكر و عقل متخلق ، هذا الاختزال أضحى مجرد ضرب من التهافت ، إذ بات هذا الإنسان الرمضاني إنسانا " حيوانا" يقتصر بعده في تلبية حاجاته الفزيولوجية ، من أكل و شرب و جنس ، و هذا ما يعتبر خرقا لقواعد الصوم ، دون أدنى فكرة عن ماهية الصيام و ما يضطلع به من أدوار كفيلة بأن تغير الإنسان و ترفع من إنسانيته ، و نتوقف هنا لنتساءل : لماذا العنف ؟ و هل الإنسان كان عنيف؟ و هل العنف هو رد فعل عن رغبة أو حاجة بيولوجية؟ و كيف يمكن أن نحد منه؟
كونراد لورنتز : عدوانية الإنسان
نتيجة لتأثره بالنزعة الداروينية البيولوجية التطرية ذهب الفيلسوف لورنتز في مسار المقولات المرتبطة بهذا السياق و أهمها الإنتقاء الطبيعي أي البقاء للأصلح ، فالإنسان رغم صراعه مع الإنسان إلا أنه يكبح نزوعه للعنف عندما يصطدم بإنسان أقل منه عنفا ، أو أكثر منه صلحا ، أو بتعبير أكثر بساطة ، نحن البشر رغم العنف الذي نمارسه دائما على بعضنا إلا أنه ليس عنفا قاتلا ، و ذلك لوجود آلة فيزيولوجية في السلوك يتم بواسطتها تركيز العدوان بحيث تظل قيمة الصراع و حدته قامة من أجل الحفاظ على النوع ، و انطلاقا من هذا الموقف نستنتج أن عدوانية الإنسان مكتسبة و في نفس الوقت غريزية ، نظرا لارتباط الإنسان بالنوع الحيواني .
توماس هوبز : الإنسان ذئب لأخيه الإنسان
يرى الفيلسف الإنجليزي هوبز أن العنف يمثل عنصرا أساسيا في العلاقات الاجتماعية، ذلك أن الباعث الأساسي لسلوك الإنسان هو حب البقاء والحفاظ على الذات، وبالتالي فكل إنسان بحكم أنانيته الطبيعية يمثل خطرا بالنسبة لكل إنسان آخر ( الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، ففي الحالة الطبيعية السابقة على وجود الدولة يكون “الجميع في حرب ضد الجميع”، لذا يتحتم تأسيس دولة قاهرة لإيقاف الحرب ولضمان الحياة واستمرارية المجتمع ، لكبح جماح الحيوانية في الإنسان و تطويق غريزته العنيفة و الشريرة و التي لربما تبرز كلما أحس بالتهديد ، فالحيوان يصبح خطيرا عندما يجوع ، أما الإنسان فيصبح خطيرا عندما يجوع و يشبع ، ففي الحالة الأولى حيوان و في الحالة الثانية إنسان شرير .
سيغموند فرويد : اللبيدو السالب
يعتبر عالم النفس النمساوي فرويد ( مثل لورنتز و هوبز ) أن العنف هو نزعة طبيعية في الإنسان، وتستند إلى رغبه تدميرية( ليبيدو سالب) ، وهي تعبر عن نزعة تلقائية لكل كائن عضوي نحو الموت، و تقود هذه إلى تراكم طاقة نفسية في اللاوعي تخرج منه بشكل عنيف وهدّام، وهو الأمر الذي يزيد كلما احتوى حاجز الأنا الأعلى (القيم الحاكمة) للفرد على تصدّعات أخلاقية نتيجة المسيرة التربوية، أو أثناء بناء الشخصية في مرحلة الطفولة والمراهقة. فالعنف -وفق التحليل النفسـي لفرويد- نابع من كبت داخلي لم يخرج بالصورة التي تُفرّغ النفس منه، فيتصوّر على هيئة عدوان ،فقد يجنح الإنسان لإيذاء نفسه أو لإيذاء الغير بإخراج هذا الكمّ من العنف في الإطار المجتمعي، ويقابلها نزعة طبيعية أخرى نقيضة لها هي نزعة الحياة (نزعة الإيروس ) ، والتي تدفع إلى الإنسان إلى الإبداع .
يورغن هابرماس : العنف ، عطب في العملية التواصلية
يرجع السوسيولوجي الألماني هابرماس العنف الى حالة وجود خلل في التواصل و يعتبره في نفس الوقت تواصلا مشوها بشكل نسقي ،حيث يدرك العنف على أنّه مشتق. ومعنى ذلك أن فكرة الانسجام العقلاني، وإمكانيّة التوصل إلى إجماع عقلاني، يعدها هابرماس سابقة للعنف من الناحية المنطقية والكرونولوجية ، يعني أن السلام سابق للعنف و ليس العكس كما يقول الهيغليون و الماركسيون ، و هنا إقرار ملح بضرورة اللغة و بناء جسور التواصل ، فحين يغيب التواصل تحضر مركزية الفكر، ونفي الآخر، واعتبار «الغير» شيئاً ضاراً في الأصل ولا حاجة للتواصل معه ( هوبز)، بل يجب إلغاؤه وتصفيته على الفور( ساتر).. وهذه هي فكرة التصفية في أيديولوجيا «داعش» و«النصرة» على سبيل المثال.. وغيرها من الجماعات الأصولية الاستئصالية الكارثية. و كل عنف هو حالة عطب في التواصل، وكل مجتمع يغيب عنه حوار التواصل العمومي اليومي العادي، ينتشر فيه العنف.. ولهذا فعلينا تربويا وفكريا -في كافة البلاد العربية والإسلامية- تحويل الحوار إلى أداة يومية لتحقيق أغراض إنسانية بغض النظر عن المردود العلمي أو المعرفي، وبغض النظر عن معايير الحق والباطل. يجب أن يكون الحوار مفتوحا، لأن الحوار هو نواة التسامح، وحسن الظن، وذهاب الريبة، ووجود التواصل الإنساني، وتحقيق الأمن الكلامي ولضرب خطر التنافي. علينا أن نعزز التواصل عربيا وإسلاميا، وإلا فإن أعطاب التواصل واختلالات التحاور ستجر أكثر من «قاعدة»، وأكثر من «تشرمل»، وأكثر من «ترمضينة».
رأي شخصي : الدارجة المغربية كفتنة عنيفة
و غير بعيد عن فلسفة اللغة عند هابرماس ، أود أن أشير إلى فكرة أساسية و أحاول تبسيطها انطلاقا من مطابقتها بالواقع . العنف عندنا هو عنف لغوي بالدرجة الأساس ، يتمخض عن تبسط لغة الشيء المشار إليه، حيث تختزله في خاصية واحدة. إنّها تفكك الشيء، وتدمّر وحدته العضوية، وتتعامل مع أجزائه وخصائصه كأشياء مستقلة. إنّها تدرج الشيء في حقلٍ للمعنى هو في نهاية المطاف خارجي عن المعنى ، فكما يسميه تيودر أدورنو بهتان الهوية ، حيث تصبح اللغة كلمات اعتباطية تستمد رمزيتها من تداولها الواسع . و لعل كلمات السب و الشتم في مجتمعاتنا و التفنن فيها خير دليل على تشطيب اللغة من قواميس المنطق و الأخلاق ، و إذا كانت اللغة أساس العقل كما يقول فيغنينشتاين و أساس التواصل عند ميرلوبونتي و هابرماس ، و إذا لغتنا تفسخت و توسخت و تلطخت و تعرت و تبددت ، فمن نحن يا ترى ؟
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .