:توطئة👀
نشأت الكلبية وتطـورت حتى أصبحـت عنـد المتأخرين من فلاسفتها ظاهرة انحلال كبير في الحيـاة الفكريـة عـن اليونان انعكست فيهـا آثـار القلاقـل السياسية المتلاحقة بعد تفسخ امبراطورية الاسكندر وضاعت فيها ملامح الروح اليونانية القديمة في عصرها الكلاسيكي كما نبذت الايجابية في اة وظهر معهـا اليـأس والانحلال الذي ظهرت ملامحه في موجة الشـك فـي الـعلـم عنـد معاصريهم الشكاك أو الانسياق إلى طلب اللذة عند القورينائيين . وعلى العموم لم يكن الكلبيون ولا أغلبية معاصريهم يعنيهم صـلاح المجتمع أو المشاركة في الحياة السياسية وضاعت معهم أيضا نعرة العنصرية اليونانية التـي ظهرت في عصر افلاطون وأرسطو ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا من الغرباء والعبيد ولا يتمتعون بامتيازات وحقوق المواطن اليوناني القديم ، فأنتستينس مؤسس المدرسة لم يكن من أصل يوناني وكانت أمه تراقيه وديوجيـن عـاش طريد العدالة وكان مونيم Monime ومنيديم Menédeme عبدين وكان منهم أيضا مينيـب Ménippe وهو عبد فينيقي الأصل انتهى أمره بأن امتهن الشحاذة وشنق نفسه . لذا سنتعرف على فلاسفة المدرسة الكلبية ممن وصلتنا فلسفتهم عبر فلاسفة آخرين و سنقتفي أثر فكرهم الغريب في هذا المقال .
يعتبر أنتيسنيس مؤسسا للمذهب الكلبي في الفلسفة و هو الذي تلا مرحلة البروتاغورية و السقراطية و أخذ من كلا الاتجاهين ، حيث نهل من بروتاغوراس الأخلاق ، و استقى من سقراط مبدأ الفضيلة . كان أنتيسنيس تلميذا لغورغياس ثم لسقراط ، و دخل في عداوة مع أفلاطون حول من يستحق الإرث السقراطي .
كان علم الأخلاق هو نقطة ارتكاز فلسفة أنتيسنيس ، و فيه واصل مفاهيم سقراط المتطرفة ، و أكد على أن الخير و الهدف الوحيد للحياة هو الفضيلة ، و اعتبر أن المعرفة مصدرها الإدراك و الأفكار الصحيحة المرتبطة بالتفسير .
👀الإرث السقراطي حول الفضيلة :
كان مدار التركيز عند أنتيستينيس هو سقراط ، فتغاضى عن الجانب العقلي و الفلسفي عنده ، و اهتم بشخصيته المستقلة ، حيث كان سقراط يأخد أفكاره بصرف النظر عن آراء الآخرين ، و هذا الاستقلال كان في الواقع مجرد نتاج ثانوي ، لقد كان سقراط مستقلا عن كل الخيرات و الممتلكات الأرضية و لم يكن يعبأ بالثروات أو الاستحسان و ذلك راجع بالأساس على انكبابه العقلي على تحصيل أهم الكنوز ، و هو إحراز المعرفة و الحكمة ، غير أن الكلبيين مثلهم مثل السوفسطائيين و القورنائيين و بعدهم الرواقيين و الأبيقوريين قد خسروا تعاليم سقراط ، لا يعني أنها ضاعت ، بل لم تفهم كما أراد لها سقراط أن تفهم ، حيث فهم الكلبيون منه أن هدف الحياة الأسمى هو الإستقلال عن اللذات و الاستغناء عن الممتلكات و التخلي عن الشهوات ، و كان هذا هو تعريفهم للفضيلة كذلك ، و هو التجرد الكامل عن كل شيء يجعل الحياة جديرة بأن تعاش في نظر الناس العاديين ، إنهم ينادون بالزهد الكامل و استقامة النفس بصرامة ، كان سقراط يظن ان المعرفة الوحيدة بالقيمة العليا هـي المعرفة الاخلاقية وقد أظهر نزوعا الى عـدم الاكتراث بأنـواع المعرفة الأخرى . ولقد بالغ الكلبيون في هذه السمة وحولوها الى احتقار وازدراء لكل غن وكل معرفة وصل الى حد الجهل والجلافة . يقول انتستينس : « الفضيلة كافية للسعادة ، ومن اجل الفضيلة ليست هناك حاجة الا الى قوة سقراط ، أن المسألة مسألة فعل ولا يقتضى هــذا الكثير من الكلمات أو الكثير من المعرفة » وهكذا نجد أن المثال الكلبي للفضيلة مثال سلبی تماما : انه غيبة كل رغبة والتحـرر من جميـع الاحتياجات والاستقلال التام عن كل الممتلكات . وكثير من الكلبيين رفضـوا المكوث في البيوت او اي مكان للسكن وأخذوا يتجولون أشبه بالأفاقين والشحاذين . ولهذا السبب عينه عاش ديوجين في حوض استحمام ولقد كان سقراط وهو يتبـع من صميم قلبه ما يعـرف أنه خير فإنه لم يكن يعبأ بما يقوله العامة والسوقة ولكن عدم الاكتراث هذا بأراء الاخرين مثل تحرره من الممتلكات ليس غاية في ذاته فهو لم يفسر المسألة على أنه يريد عمـدا أن يهاجم الرأى العام غير أن الكلبيين حتى يظهروا استقلالهم تحدوا الرأى العام وابدوا الكثير من قلة الحياء . يرى الكلبيون أن الفضيلة هي وحدها الخير والرذيلة هـى الشر الوحيد ولا شيء عدا هذا يمكن أن يكون خيرا او شرا . وكل شيء آخر « غير مهم » والملكية واللذة والثروة والحرية والراحة بل الحياة نفسها لا يجب أن تعد خيرات . والفقر والمسغبة والمرض والعبودية والمـوت ، و أن تكون حرا ليس أفضل من أن تكون عبدا لأن العبد إذا توفرت له الفضيلة فإنه هو نفسه يكون حرا و حاكما ، و الانتحار ليس جريمة و الإنسان قد يدمر حياته ، لا ليهرب من البؤس و الألمبل ليظهر أن الحياة بالنسبة له تهم . إن الفضيلة واحدة لا تنشطر ، إما أن يمتلكها الإنسان كلها و إما لا يمتلكها على الإطلاق ، و هو في الحالة الأولى رجل حكيم و في الحالة الثانية رجل غبي ، و الحكيم يملك الفضيلة كلها و الحكمة كلها و المعرفة كلها السعادة كلها و الكمال كله ، و الغبي يملك الشر كله و التعاسة كلها و النقص كله .
👃 السياق الإجتماعي للفلسفة الكلبية :
ينحذر مؤسسو الكلبية من البروليتاريا المحرومة من كل أشكال الملكية و المناصب ، فقد كان أنتيسنيس ابنا لعبيد لا يملكون حق المواطنة .والبقية كذلك . كل ما يملكونه هو الفضيلة ، فقد نادوا بالفضيلة و أدانوا الخير الخارجي بهدف السعي نحو المتعة ، و الخير لا يعطيهم السعادة لأنهم لا يملكونه و يقولون أنهم حتى لو سلكوه فلن يهبهم الاحساس بالسعادة ، كان يرفضون إعطاء قيمة للشيء الذي يملكونه ، لم تعتمد فلسفتهم على التأمل النظري بل استندت الى الظروف الحياتية .فكونك إنسانا عندهم لا يعني أنك تحتوي الإنسانية بل تحتوي الفضيلة التي تميزك عن الحيوان بعيدا عن نسبك او حسبك او ثروتك . و بالتالي المساواة بين جميع بني البشر ، كما نادى الكلبيون بمساواة النساء و العبيد و لم يكونوا معترفين بالحدود السياسية .
👂ديوجنيس و البقية : غرائبو الأطوار
✓أبرز تلاميذ أنتيسنيس هو ديوجنيس و الذي عاب في أستاذه بأنه كان يدعو للنظريات التي لم يستخدمها أي أنه لم يطبق فلسفته . لكن ديوجنيس طبقها و اتجه نحو الوقائع العملية و تخلى عن حياة البذخ و الوجاهة لاقتناعه بالتعاليم الكلبية . لقد رفض هذا الفيلسوف الغريب كل نتاجات الثقافة ، ليس فقط السلبية منها ، يعني إذا أردنا تطبيق فلسفته سيتحتم علينا ألا نعطي قيمة لما نملكه حاليا و نفر الى أحضان الطبيعة و الشارع . و العجيب أن ديوجنيس كان يشعر بسعادة عارمة و هو ينام في العراء ، في الشارع بلباس رث ، لم يكن يهمه الأمر .وكان أبوه يعمل في تزييف النقود فكـان يقـول انـه قـد ورث صنعة أبيـه غير أن مهمته هي تزييف مواضعـات النـاس وتقاليدهم واهتماماتهم الدنيوية . ويروى أنه كان يقطن جرة كبيرة كانت من النوع المستخدم عـن اليونان لدفن الموتى . ومما يروى عنه أنهم سألوه مرة ما هو موطنك ؟ فأجابهم بقولـه أنـا مواطن عالمي وسألوه أيضا لمـا يتردد على الأماكن الحقيرة فأجـابهم ان الشمس أيضا تدخل تلك الأماكن وقد رفض نظـام الـزواج وكـان يقـول بالشيوعية بيـن الجنسين . ولكثرة ما روى عنه من غريب الأطـوار قـدم لـه المؤرخون صورتين مختلفتين فالصورة الأولى تغلب فيه الفضيلة والزهد أمـا الصـورة الثانية فتقدمـه ساخرا مستهترا . ولعل الذي ساعد على هذا التفسير الأخير هو كثرة الغرابة التي أحاطت بمذهب الكلبيـن فيمـا بعـد والتي صورتهـم أشبه بققراء الهنـود ، شحاذين محترفين ، يطلبون الحسنة ويسخرون من مانحيها ، ويحتقرون العلوم وكل مظـاهر المدنية ويرجعون إلى الطبيعة يعيشون عليها في وحشية كالحيوانات ، بـل انسـاق بعضهم حين اختلط الأمر عليهم فيما بعد إلى طلب اللذة وظهرت لهم كثير من البدع ومن النكات الساخرة والوقاحة والخروج على المألوف . فقد تميز الكلبيون أنفسهم عن باقي الناس بإطالة شعرهم وبملابسهم الغريبة وبعصاهم وصرتهم وزهدهم ولم يغيروا من شكل أزيائهم بعد الغزو المقدوني كما فعل بقية اليونان . ومن أطرف ما يروية عنهم ديوجين لائرس وصفه لبعض شخصياتهم التي ربما كانت هي المسئولة عن هذه الصورة الغريبة فمن هذه الشخصيات شخصية مينيديم الكلبي الـذي يتجـول مغطيا وجهه بقناع يمثل وجـه الجنيـات ويقـول انـه قـد حضر مباشرة من الجحيم ليراقب أخطاء الناس وأنه سيعود ليروى للالهة ما يراه منهم أما ملابسه فكانت أكثر غرابة من وجهه فقد كان يلبس رداء طويلا يصل إلى قدميه يعقده بحزام أحمر اللون ويضع على رأسه قبعة أركادية رسم عليها الاثني عشر رمزا لبروج الشمس ، وينتعل حذاء ممثلى التراجيديا ويرسل لحيته ويمسك بعصاه . ومن أشهرهم أيضا أقراطيـس الـذي وزع ثروته كلها وعاش معدما و اتعلقت بحبه هيبارخيا التي اعتنقت مذهب الكلبيين ورفضت الـزواج وهددت بالانتحـار ان حـاول أهلهـا التفريق بينها وبينـه وقاسمته زهـده وحياته البوهيميـة وأنجبت منه ابنا سمياه باسيكليس .
:ديوجنيس و الإسكندر الأكبر 👂
حكي أن ديوجين لقي الإسكندر الأكبر يوما دون أن يأبه له، وحين لفت الإسكندر نظره قائلا : إنني الإسكندر. التفت إليه ديوجين قائلا في بساطة: وإنني ديوجين الكلبي. فقال الإسكندر: انظر إذا كانت لك حاجة أقضيها لك. فأجابه: تنح عن طريقي حتى لا تحجب عني ضوء الشمس. فدهش الإسكندر وأسر إلى نفسه: لو لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجين.
👂الشتات الكلبي :
انضم الكثير من أنصار الكلبيين الى المدرسة الرواقية ، إذ نجد مثلا أن أفكار أبكتيت لا تختلف كثيرا عن مفاهيم الكلبيين ، و لقد كان لهم تأثير بالغ الأهمية على مفهوم الفلسفة في بعده الواقعي ، حيث و كما رأينا أن ديوجنيس قام بأجرأة المفهوم و انتزاعه من التأملات العميقة و العقيمة و التي لا تحاكي الواقع ، و كانوا يعتقدون أن الفيلسوف الحقيقي هو من كان يشبههم ، أي الإنسان الزاهد السعيد ، و قد ساد هذا المفهوم لفترة طويلة ، حتى أن فلاسفة متناقضين مع بعضهم تماما مثل جوليان أبو ستاتا و جورجيوس النيسيني (أكبر عد للمسيحية و أكثر من دافع عنها) ، اتفقا في تحديد صورة الفيلسوف على مثال الإنسان الكلبي ، و قد ناسبت الكلبية المفاهيم المسيحية المبكرة و استمرت مدرستهم حتى القرن السادس الملادي و لكن نفوذهم كان دائما يتجاوز حدود مدرستهم نفسها .
:انتقادات 👂
انتقـد لوقيان المعلمين الكلبيين بلا رحمة لا سيما أصحـاب العادات السيئة منهم . لقصـورهم في الثقافة ، وخشونتهم ، وتهريجهم المبتذل ، وفحشهم ومجونهم ، ولقد كان « لوقيان » عدوا لكل ما هو خماسي ، وللحـمي الدينية ، وللمبالغات الصوفية - فقد كان ينفر من ذلك كله . حتى أنه لم يكن في أكثر الأحيان منصفا للكلبيين نظرا لأنه لم يتعاطف معهم ، ولم يفهمهـم . لكن علينا أن نتذكر أن « لوقيان » لم يكن هو الوحيد الذي انتقدهم ، بل انتـقـدهم أيضا « مـارتيـال » و « بترونيسوس » وسينكا ، وأبيكتـتـوس ، وديون كريوستوم وغيرهم ولقد اتفقوا جمبعاً على إدانة تصرفاتهم السيئة التي ـ كانت سيئة حقا - بغيـر شك ، ومن المؤكد أن بعض الكلبيين كانوا محتالين ودجـالين ومهرجين ، ولهذا فقد وضعـوا اسم الفلسـفـة مـوضع الاحتـقار .
خاتمة :
عاش الكلبيون معيشة البروليتاريا و الحياة الهامشية بدون منزل او ملكية او زوجة او أولاد ، و كانوا يبدون غرباء و يستهجنهم الناس ، كانوا في كتاباتهم الناذرة يهاجمون الحضارة بضراوة و خشونة، فعاشوا حياة الكلاب.
لقب كلبي لا يقصد به الكلبفي العصر الهلنستي اليوناني كان يطلق لقب الكلبي على كل شخص يعادي في أفكاره الثقافة و القيم السائدة و حياة التحضر و الرخاء .
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .