في سنة 1964 ، أصدر الباحثان بيير بورديو و باسرون كتابا يحمل عنوان : "الورثة" و إعادة الإنتاج في سنة 1970 ، و قد اعتبر الكتاب مسايرة جادة للتغيرات التي يشهدها المجتمع الفرنسي آنذاك ، و حيث تركزت دراسة الباحثان على نسق اجتماعي لا يقل أهمية عن الأنساق المحافظة على توليفة المجتمع الفوقية و التحتية ، هذا النسق هو الجامعة ، و هنا وجه الباحثان عنايتهما الى شريحة اجتماعية هامة تتنامى يوما بعد آخر و التي تتمثل بالأساس في الطلبة الذين يلجون الجامعات ،الى حدود أن برز ما يمكن أن ندعوه بأيديلوجية النقابوية الطلابية ، المنظة التي تحتضنها أغلب الجامعات العالمية اليوم ، و التي تنظر الى الطلبة على أنهم جسم اجتماعي متماسك يحافظ بدوره على وحدوية المجتمع و استاتيكيته ، فتطور هذا المنظور حتى أصبحنا نتحدث عن طبقة الطلبة ، و في هذا إحالة قوية على تصنيف فئة الطلبة وفق نموذج التراتب الإجتماعي ، يعني في ذلك محاولة لوضع الطالب ضمن درجة هرمية يتحدد بموجبها أداءه و دوره في المجتمع ، أو بالأحرى كذلك ، في ذلك تقويض لمردودية الطالب الفكرية و التقنية و التي من شأنها أن تقف ندا و تطلعات الفئات الأعلى تصنيفا في الهرم الإجتماعي ، و في ذلك دلالة شفافة على وحدة المصالح و الوضعية المشتركة للطلبة ، و هذه المسألة شكلت مدار بحث عميق من قبل العديد من السوسيولوجيين المهتمين بالمجال الجامعي أو الطلابي أو بصفة عامة بالمجال التربوي التعليمي على غرار بورديو و باسرون ،و إليتش ، و ويليس ... و ذلك بغية إبراز واقع و حدود الطرح السائد حول الفئة الطلابية .
قبل خوض غمار النبش في خبايا النظام التعليمي عبر محطة سوسيولوجية مكتظة بالأفكار و الدراسات ، وجب استعراض الفكرة الجوهرية التي يدور حولها كتاب الورثة أو إعادة الإنتاج الإجتماعي ، و تتركز في اعتبار أن التعليم العالي يعكس خريطة التمايزات الطبقية الموجودة داخل المجتمع الفرنسي ، و بالتالي فالجامعة هي صورة طبق الأصل لما يعيشه العالم الإجتماعي من هيمنة الطبقة البرجوازية على الإنتاج المادي عبر وسائل الإنتاج ، كما ورد في نقد النظام الرأسمالي عند كارل ماركس و الذي يعزز قوة قبضة الطبقة العليا المالكة لوسائل الإنتاج ، الواقفة على أكتاف البروليتاريين أو الكادحين من الطبقات الدنيا ، و تدخل هنا بورديو بقليل من التمحيص و الإضافة على تركيز ماركس بشكل كلي على الرأسمال الإقصادي ، و أهمل هيمنة الانتاج الرمزي و الاجتماعي حسب بورديو و الذي تخدمه المدرسة بشكل جلي .
✊توطئة للمتن البوردياوي :
قد يكون الاستهلال في الحديث عن بورديو من دون ذكر كم كانت حذاقته بالفلسفة عميقة ضربا من ضروب نكران الجميل ، و تمكنه من السوسيولوجيا كما يجب أن تكون ،تلك السوسيولوجيا التي تقف عائقة أمام الأنظمة التقليدية الفوضوية و السلطوية على حد سواء ، تسعى إلى إلتقاط الإنسان من غياهب الجهل و الرجعية الى نور العلم العقلانية و التقدمية ، و هو الرهان الذي خاضه برديو عبر تعرية تامة للنظام التعليمي الفرنسي ، و فضحه أمام المجتمع المنتج و الداعم له ، و هكذا يجب أن تكون مهمة السوسيولوجي رغم عسر تأديتها في المجتمعات المتعصبة و الرجعية ، إنها مهمة شبهها بورديو بالملاكمة ، و هذا ما قد أتى به بورديو في السوسيولوجيا من زاوية التخصيص ، و العلوم الإجتماعية منزاوية الجملة من كتابات فريدة عصية ثرية مدرارة ، و ما أتى عليه من موضوعات و ظواهر و مجالات شتى سيكلف حصرها وقتا ليس بقليل و فهمها يقتضي درة من النبوغ العقلي و النضج على مستوى الرؤية الاجتماعية ، و ما صنعه على عينه من مفاهيم مستحدثة أحسرت قدرة كشفية عن أسئلة كانت و لمدى بعيد المعرفة السوسيولوجيا و الفلسفية في غفلة عنها ، أو على الأجذر تتغاضى عنها ، و إننا هنا لنعترف بإقرار كبير بعلم بورديو سعة و عمقا و إجلالا لما سبغ به على السوسيولوجيا من إضافات ، و نحن الذين نذوذ إليه به ، حتى نفهمه ، مثلما فيه تبيان الى أن الرجل سعى في العلم ليتملك ناصية نظرية عامة لا تذر واقعة أو ظاهرة أو ممارسة إلا ادعت تملك أسبابها و العلم بتأويلها ، إن في ذلك لتصديق لقولنا عن نزع بورديو الى نسقنة المعرفة كلها .
😇أطروحة بيير بورديو حول النظام التعليمي :
انطلق السوسيولوجي المعاصر الفرنسي بيير بورديو لعرض أطروحته من فرضية تقول أن المتعلمين لا يملكون الحظوظ نفسها لتحقيق النجاح المدرسي ، لكن ما هو السبب في ذلك؟
فسر بيير بورديو ذلك تفسيرا سوسيولوجيا محضا استند فيه الى الدراسات الإحصائية و التحليلات المعمقة التي أجريت على النظام التعليمي الفرنسي و ذلك بمساعدة صديقه السوسيولوجي الآخر كلود باسيرون ، توصل بورديو الى استنتاج مفاده أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم في المدرسة الرأسمالية هي ثقافة منقحة غير موضوعية تخفي مساعي الحفاظ على الطبقة الحاكمة .
فالتنشئة الاجتماعية داخل الوسط المدرسي لا تعمل على تحرير المتعلم، بل إنها تدمجه في المجتمع عبر ثقافة التوافق والتطبيع و الانضباط المجتمعي، بمعنى آخر فإن المدرسة تساهم في تكريس اللامساواة ، و تخنق المتعلم الفقير داخل قوقعة اللاطموح و الأهداف البسيط و التي لن تجعله يتسلق سلم الحراك الإجتماعي، بل تكبحه و تبقيه في مكانه . و أضحى الإخفاق مآل أبناء الطبقات الشعبية، بينما يكون النجاح حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقات الحاكمة، وبالتالي أصبحت المؤسسة التربوية فضاء فارقيا بامتياز أو مدرسة للانتقاء والاصطفاء الطبقي و التمييزالاجتماعي والذي يدفع ثمنه أبناء الطبقات الدنيا من العمال والمهاجرين .
إن عملية الاصطفاء لا تتمأسس كما الشائع على الأصل الإجتماعي أو الجنس فقط ، بل على الماضي المدرسي من التعليم الإبدائي أو الأولي وصولا الى التعليم العالي عند فئة الطلبة حيث يكون المستقبل قد اكتملت معالمه و أصبح المآل واضحا .
حول مفهوم إعادة الإنتاج الثقافي أو الإجتماعي :
يعزى مفهوم إعادة الإنتاج الثقافي الوارد في كتاب السوسيولوجيا لكاتبه أنتوني غيدنز الى الوسائل و الطرق التي تنتهجها المدارس بمشاركة المؤسسات الإجتماعية الأخرى ، لإدامة نواحي اللامساواة الإجتماعية و الاقتصادية جيلا بعد جيل ، و يلفت هذا المفهوم انتباهنا الى السبل التي تتمكن بها المدارس، عبر مناهجها الدراسية الخبيثة ، من ممارسة التأثير على تعليم القيم و التوجهات و العادات ، إن المدارس بهذا المعنى ترسخ وجوه التنوع في القيم الثقافية و التوجهات التي يكتسبها المرء من المراحل المبكرة من حياته ، و عندما يغادر الأطفال المدرسة ، تمارس هذه القيم الثقافية آثارها على الناس بتحديد آفاق الفرص كما و سبق و أشرنا .
و في نفس الدوامة ألقى بيير بورديو موضوع الرأسمال الرمزي أو الثقافي و الذي كان نقطة انفصاله عن فكر كارل ماركس . إذ يوضح بورديو أن الفروق الطبقية في المجتمع مصدرها هذا الرأسمال ، إذ أن التلميذ الذي ينحذر مثلا من عائلة غنية يلج أفضل المدارس و يتلقى أفضل التكوين ليكون بدوره حلقة مهمة في عائلته ، و نجد هذا النوع من التلاميذ ضابطا للغات في سن مبكرة و يتمتع بحس ثقافي ذكي تم تمريره إليه من طرف والديه .أما في المجتمع العربي فحالة المؤسسة التعليمية نتحدث عنها بحرج ، كارثية ، بسبب التدخل اللامنطقي للهيئات السياسية صانعي القرار السياسي ،و ما يتعلمه التلاميذ من الساعات الطويلة و الأعوام المجحفة من الصيام عن النوم و الأكل و بث الرهبة في النفوس عن طريق الإمتحانات و الفروض الكثيرة ، هو بالفعل لا يتطابق مع ما تزج به المناهج الرسمية المعلنة في سوق العمل ، فالتلاميذ أو الطلاب يتلمسون بعض الجوانب فقط في ما سيكون عليه عالم الشغل ، و يدركون أنه يتوقع منهم أن يكونوا دقيقين في مواعدهم و مثابرين و حريصين على أداء المهمات التي يحددها لهم أولوا الأمر و السلطة . فباتت المدرسة وسيلة طيعة في أيديهم لإعادة إنتاج أوضاع تراتبية في المجتمع ، حيث أن النظام التعليمي لا يساهم في خلق حراك اجتماعي تفاعلي ، بما يعنيه ذلك من تقاسم عادل للرأسمال الرمزي حسب تعبير بيير بوديو ، والمتمثل في الإستفادة من الخدمات التربوية والمعرفية والتكوينية ، لخلق تكافؤ للفرص بين جميع أبناء الشعب ، بقدر ما كان يعيد إنتاج نفس الوضعيات الإجتماعية ،حيث المحظوظون ماديا واجتماعيا ومؤسساتيا وسلطويا ، يضمنون لأبنائهم تعليما وتكوينا جيدا ، يؤهلهم لتقلد مناصب حساسة وذات ثقل ونفوذ في دواليب المجتمع ، بينما المحرومون والذين يعيشون أوضاع الهشاشة الإجتماعية والمادية والفكرية ، يكون مصيرهم العمل اليدوي ، وفي أحسن الأحوال تقلد الوظائف الوضيعة والتقنية البسيطة و التي على حد تعبير اينشتاين لن تجعلك غنيا حتى و لو بقيت تجمع في دخلك الشهري حياة كاملة .
و على أنقاض ما تطرقنا إليه ، فقد طور الباحثان مفهوما جديدا ذا علاقة هو : "العنف الرمزي" ، حيث تعيد المدرسة إنتاج و بشكل تعسفي الهيمنة الطبقية لشريحة اجتماعية ، بتخويل هذه الأخير احتكارا رمزيا بعد أن كان ماديا للعالم الإجتماعي ، بما في ذلك تهميش أبناء الطبقة الفلاحية والمترعرعين في أسر تقليدية عاملة ، و هذا التهميش يتم بشكل رمزي مستلطف ، تستغفله العقول النمطية المتكيفة مع الأوضاع كما كانت شدتها ، و الاستسلام اللاشعوري لها بغياب تام لعقل تحليلي ديناميكي قادر على استنباط الحقائق المنسوجة في الكواليس خلف الستار و عرضها و فضحها للعيان ، و بهذا الاستلطاف المتوحش كما أسميه ، يقصي البعد الديموقراطي و الشعبي من ميدان النظام المدرسي ، و منه فقد ولجت المدرسة عالم الصراع من أوسع أبوابه ، و قوانين هذا الصراع تشرعن للطرف الأقوى داخل الحلبة ، و الحاكم فيها لا يحكم بالعدل ، و ليس بمقدوره ذلك ، لفعل فاعل ، له أحقية التشريع و التصرف .
للأسف نجد أنفسنا أمام مقررات دراسية جافة لا تغني و لا تسمن من الجوع المعرفي و التقني ، كل ما نتلقنه منها هو الانصياع و التبعية و الخضوع و الخنوع للأنظمة الحاكمة حسب لوي ألتوسير، و التي تمسك بزمام الأمور من خلال تلقيح التلاميذ بمصل يمحي حسهم النقدي و التحليلي ،و يقومون بتأليبهم على المعرفة العاقرة الواهمة . يعلمون أبناءهم التقنيات و العلوم و اللغات و يعلمونك أنت كيف تعمل لدى أبناءهم .
إذا كان لديك أي استفسار أو تدخل أو إشكال حول الموضوع المعرض ، المرجو طرحه في التعاليق .